فرويد وأنشتاين وسؤال لماذا الحرب؟

لماذا الحرب
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

بشاير بنت حبراس السليمية

كان تشارلز بلغرينو ما يزال متأسيا من حادثة هيروشيما وناغازاكي الواقعة في الأيام الأخيرة من الحرب العالمية الثانية، فكتب روايته المنشورة عام 2010م: «القطار الأخير من هيروشيما.. الناجون ينظرون إلى الخلف». تاركا الجدل المتعلق بضرورة إلقاء القنبلتين النوويتين فوق هيروشيما وناغازاكي، لأن الأمر برأيه خاص بزمان آخر وأشخاص آخرين. وقاصّا ـ على أمل ألا يموت أحد قط بهذه الطريقة مجددا ـ ما حدث للبشر والحجر جراء القنبلتين.

لكن هل نبدو قادرين على أن نمنع موت أحد بهذه الطريقة؟! طريقة الحرب! هل نستطيع فعلا إيقاف الحرب؟! كانت هذه نوايا عالم الفيزياء ألبرت أينشتاين وعالم النفس سيغموند فرويد بعد الحرب العالمية الأولى، ليثورا بعنف شديد ضد الحرب في مناظرة وصفت بأنها من أعظم مناظرات النصف الأول من القرن العشرين، ترجمها جهاد الشبيني، وحررها وكتب مقدمتها الباحث البحريني نادر كاظم، وأصدرتها منشورات تكوين الكويتية في كتاب بعنوان «لماذا الحرب؟» في عام ٢٠١٨. طرح العالِمان في هذه المناظرة التي تأخر الالتفات إليها أسئلة جوهرية عن أسباب الحرب وعرضا رؤيتيهما لا من وجهة نظر فيزيائي وعالم نفس وحسب، ولكن بصفتهما رجلين يريدان أن يضعا مستقبل العالم على أول الطريق نحو السلام الدولي والدائم، لأنهما كما يقول فرويد «لا نستطيع منع أنفسنا من القيام بذلك» كأقل واجب حتمي منتظر من شخصيات مثليهما كما أكد أينشتاين.

في اعتقادي يكتسب كتاب كهذا أهميته من كونه يصلح لأي زمان، مهما اختلفت طريقة الحرب وأدواتها وخصومها ومواقعها ودوافعها العسكرية والسياسية والاقتصادية. فبين أيدينا الآن مناظرة تبعد عنا ما يقرب المائة عام، لكن الأبعاد التي سارت بها المناظرة، والحقائق التي تناولتها وانطبقت على الحرب العالمية الأولى، هي ذاتها التي تنطبق على الحروب التي تلتها بما فيها حروب اليوم. لم يتغير العالم كثيرا في هذه الناحية، فما زالت الحروب تندلع بل وتصبح نتائجها أشد وخامة بسبب تطور الآلة العسكرية.

أرسل أينشتاين المعجب بما كتبه فرويد عن ارتباط الغرائز العدوانية والمدمرة في النفس بغرائز الحب وشهوة الحياة، وقناعاته عن تحرير الإنسان الداخلي والخارجي من شرور الحرب. أرسل خطابا أوليا إلى فرويد، متضمنا اقتراحه بتشكيل ارتباط له مواقفه الخاصة وتأثيره الأخلاقي بحيث يسهم في حل المشكلات السياسية وبالتالي يناضل ضد الحرب، ويكون هذا الارتباط مؤلفا من نخب مثقفة، وتتسع فيما بعد لتشمل الجماعات الدينية. بدا أن أينشتاين متحمس للاقتراح فعلى حد وصفه اعتبر تشكيل هذه الرابطة «أقل من واجب حتمي». لكنه يستدرك بأن إنشاء رابطة قضائية وتشريعية كهذه لتسوية النزاعات الناشئة بين الدول ستكون بلا سلطة وغير قادرة على فرض أحكامها كما يرى أينشتاين ما لم تدعم بقوة تفرض قراراتها على الجميع، وتصبح سارية على الكل من دون استثناء.

ويعتقد فرويد أن فشل الجهود المبذولة حتى الآن وفشل الوسائل المستخدمة من أجل حل هـذه المشكلة ونجاح الوسائل الأخرى في إلهاب الحماسة نحو الحرب في المقابل تقف وراءها وتؤثر فيها عوامل نفسية تتمثل في نزعة الكراهية والتدمير لدى النفس البشرية فلربما يكون القضاء على الحرب بالقضاء عليها! ولكن ذلك متعذر على نحو قاطع بسبب أن هذه الغريزة متأصلة في النفس ولا يمكن استئصالها، وترتبط بنحو تعارضي مع غريزة البقاء وشهوة الحياة. وفي تصور فرويد أن الحل يكمن في تفعيل إحداهما لتعمل ضد الأخرى: تفعيل غريزة الحب لتعمل ضد الغريزة التدميرية. ويبدو جليا الآن لماذا اختار أينشتاين سيغموند فرويد تحديدا لمناظرته في هذا الموضوع المهم والشائك، فهو يقول في رسالته لفرويد عن سبب اختياره لمناظرته في هذا الموضوع، وليس شخصية سياسية أو على الأقل شخصية تنتمي إلى الحقل العلمي الذي ينتمي إليه أينشتاين نفسه. يقول أينشتاين في تبرير اختياره لفرويد: «أنا معجب بشدة بشغفك لتأكيد الحقيقة – شغف أصبح يسيطر على كل شيء آخر في تفكيرك. لقد أظهرت مع وضوح لا يقاوم كيف ترتبط الغرائز العدوانية والمدمرة في النفس البشرية مع غرائز الحب وشهوة الحياة. وفي الوقت نفسه، تبرهن حججك المقنعة عن إخلاصك العميق للهدف العظيم لتحرير الإنسان الداخلي والخارجي من شرور الحرب».

وهكذا، ينطلق فرويد من الرابط بين العنف/القانون، ولكن كيف يمكن أن يرتبط العنف بالقانون أو أن يقود أو يتحول أحدهما إلى الآخر؟ يذهب فرويد إلى أن اتحاد عدد من الضعفاء يكوّن مجتمعا يواجه القوة العليا للفرد، فيصبح الحق هو قوة هذا المجتمع، لكنه يظل عنفا في باطنه ضد القوة العليا للفرد، وستبقى هذه السلسلة من العنف مستمرة ما لم يكن (المجتمع) مستقرا ودائما بالحفاظ عليه وإخضاعه للتنظيم من خلال قوانين محترمة، ومتى ما توافرت هذه الشروط تُخلق الروابط العاطفية بين أفراده. لكن المشكلة كما يسردها فرويد تتمثل في كون المجتمع أفرادا غير متساوين أساسا في القوة فهم أفراد حاكمون وأغلبية خاضعة، ما يعني قانونا غير متساو وعدالة غير متكافئة بالضرورة.

يوافق فرويد أينشتاين في كون إشعال حماسة الرجال لخوض الحرب أمر سهل جدا، والذي برره وعزاه إلى وجود شيء في داخلهم يحمّي هذه الحماسة ويشعلها، لأن الغريزة موجودة دائما في مكان خفي على المستوى الظاهري، تنتظر الظروف التي تكشف عنها القشرة السطحية. وقد فسر فرويد هذه الفكرة بـ «نظرية الغرائز الإنسانية» المتمثلة في: غريزة البقاء والاتحاد/ الشهوة، غريزة التدمير والقتل/ العدوانية اللتان تعملان معا بنحو معقد وترتبطان ببعضهما حتى لكأن وجود إحداهما مقترن بوجود الأخرى على الرغم من أنهما متعارضتان وتعملان ضد بعضهما.

يصف فرويد الصفتين بـ: المخلوطتين ببعضهما، وصعبتي العزل، وتحققان غرض بعضهما، وأنهما ضروريتان، ولا تقل إحداهما عن الأخرى لأن الحياة تنشأ من أفعال متعارضة، وأن كل أفعال البشر مدفوعة بتوليفة من الدوافع، فعندما يُحرض البشر على الحرب تكون لديهم قائمة من الدوافع المتعارضة منها التوق إلى العنف والتدمير، والتي تكون الاستجابة لها أسرع ما دامت ممتزجة بدوافع أخرى.

تفترض نظرية الغرائز الإنسانية أن ثمة غريزة موجودة داخل كل كائن حي، وتعمل من أجل إحداث الخراب ومن أجل إعادة الحياة إلى حالتها الأصلية، لكن بدا فرويد محبطا بعض الشيء عندما قال إنه لا فائدة من محاولة التخلص من نزعات الإنسان العدوانية، والاكتفاء بالإبقاء عليها في المستوى الذي لا يحتاجون فيه إلى ترجمتها إلى حرب.

يتساءل فرويد ببعض يأس في نهاية رسالته موجها حديثه لأينشتاين : «لماذا نثور أنا وأنت وغيرنا العديدون بعنف شديد ضد الحرب؟ لماذا لا نعتبرها واحدة من الكوارث المتعددة في الحياة المؤلمة؟! ويجيب: «لأننا لا نستطيع منع أنفسنا من القيام بذلك».

أما البحريني نادر كاظم، أستاذ الدراسات الثقافية في جامعة البحرين، فقد أحسنت منشورات تكوين باختيارها له، لأنه أسدى إلى القارئ – بمقدمته لهذه المناظرة – فائدة عظيمة مهدت الدخول في مادتها، وبسّطت دروب السير في تضاعيفها، إذ قدم فيها عصارة ما قدمه في كتابيه: «لماذا نكره؟» – الصادر في عام ٢٠١٨ عن دار سؤال البيروتية – الذي تقصى فيه أصل الكراهية في المجتمعات البشرية، وكتابه الآخر «خارج الجماعة» – الصادر في عام ٢٠١٦عن دار سؤال كذلك – الذي ناقش فيه قضايا الفرد والانتماء وتمزّقه بين متطلبات الدولة ومطالب الجماعات، فأسهم عبر مقدمته في فهم الأفكار المطروحة في مناظرة فرويد وأينشتاين، وتكوين قاعدة معرفية تؤسس لاستيعاب هذه المناظرة، مستعرضا آراء عدد من الفلاسفة والأدباء والمفكرين والمؤرخين وخبراء عسكريين على أكثر من نطاق، بلغة شائقة وأسلوب سلسل يفضي إلى فهم أعمق لنص المناظرة وأفكارها.

ينطلق كاظم في مقدمته من وجهة نظر الهمذاني بأن الفساد جزء أصيل من هذا العالم، وهو ما راح أينشتاين وفرويد يناقشانه حول الفساد والعدوان والتدمير المتمثل في مشكلة الحرب وأسبابها وكيفية الخلاص من تهديدها. فضلا عن إضافات نادر كاظم المفيدة التي تمثلت في استشهاداته حول الموضوع قديما وحديثا. ويجدر بنا التوقف عند مسألة المسافة التي يفترضها كاظم بين الجماعات فتخولها القتل وافتعال الحروب ضد الجماعات الأخرى دون الشعور بتأنيب الضمير. وكلما اتسعت المسافة التي تفصل بين جماعة وأخرى، بين حاكم ومحكوم، جلاد وضحية أصبح الذهاب إلى الحرب أكثر سهولة لأنها تمنح المبررات للقيام بها، وتمنح المنتمين لهذه الجماعة أو تلك الأمان دون أدنى رفة جفن لإبادة الجماعة الأخرى. يقدم كاظم تصوره هذا ضمن مفهوم الهوية التي ترسمها هذه المسافة وتحدد إطارها، لأنها مسافة تمييز بين الذات والآخر، بين الجماعة والجماعة الأخرى، ومن دون هـذه المسافة تنتفي الهوية وتذوب مع الآخر، لذا فإن أي سبيل للقضاء على الحرب لا يكون إلا بتقليص هذه المسافة إلى الحدود الدنيا وإذابتها، ولكن ذلك سيؤدي حتما – حسب نادر كاظم – إلى تقويض الهوية نفسها. برؤيته هذه يقدم كاظم رؤية معدلة لرؤية أمين معلوف التي قدمها في كتابه «هويات قاتلة» عندما ذهب إلى أن السبيل إلى نزع فتيل الاقتتال على الهوية يكمن في توسيع دوائر الانتماءات المتعددة، والتركيز على المشتركات بين الهويات المختلفة.

كتاب «لماذا الحرب؟» كتاب مهم، وتجدر قراءته ومناقشته على نطاق واسع، ومن مختلف الشرائح والفئات والتخصصات، واستخلاص النتائج منه التي من شأنها أن تساعد في تحقيق فهم عام ومشترك لدوافع الحرب أولا، حتى يتسنى ثانيا السيطرة على جماحها أو التقليل من احتمالاتها طالما بقي القضاء عليها تماما ليس ممكنا حسبما ذهب أينشتاين وفرويد في مناظرتهما التاريخية هـذه.

وإذا كان السؤال لماذا الحرب قد وجد إجابته في هذا الكتاب قليل الصفحات، فإن سؤالا آخر سيبقى مفتوحا بلا جواب في المدى المنظور، ألا وهو: متى يمكن أن نرى الحرب في واقعنا خيارا مستحيلا؟

……………………………

*صحفية وقاصة عمانية

مقالات من نفس القسم