حتى لا يتحول المثقفون إلى حفاري قبور

حتى لا يتحول المثقفون إلى حفاري قبور
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

كان ذلك منذ زمن طويل. أتذكر أنني قابلت الشاعر الكبير محمد عفيفي مطر رحمه الله، في ندوة في "قطر" قبل وفاته بوقت قصير، وقد بدا متعباً جداً، لكن على الرغم من ذلك، لم يُخف تعبَه وهجه الشعري ولمعت الدوحة كلها بحضوره.

نفس الشيء تكرر مع الشاعر الراحل أحمد  فؤاد نجم، الذي كنت وما زلت من مريديه، حين زار الدوحة أكثر من مرة ليلقى شعره ويمتع محبيه، تكرر المشهد، شاعر كبير متعب يخفي الكثير من الآلام، ومن ذلك ما زال متألقاً ومتوهجاً بالشعر والإبداع.

كل مرة كنت ألتقي فيها قامة من قامات مصر الشعرية والأدبية تأتي أثناء رحلاتهم القصيرة إلى الدوحة لعقد ندوة أو حضور مؤتمر، وكنت أرى تصاريف الزمن عليهم كنت أشعر بالأسى. بالتأكيد كل شاعر ومثقف يملك أسبابه الخاصة، التي من الممكن ألا تكون مادية كسبب لزيارة الخليج، ولكن كان واضحاً بالنسبة لي على الأقل أن الشعراء والكتاب الحقيقين لا يجدون من يهتم بهم اهتماماً حقيقياً ويرعاهم من مؤسسات الدولة الثقافية في مصر، وذلك لأسباب مختلفة مثل إما أنهم ليسوا من شلة الوزير أو أحد المقربين منه، أو أنهم لا يدورون في فلك صحافي معين أو جريدة معين تروج لهم ولكتابتهم، أو أنهم يترفعون عن البوح بمشاكلهم الصحية وحاجاتهم حتى لو كان بهم خصاصة، فقط يكتفون بالإبداع الذي يقدمونه والذي يتحصلون في مقابله على مقابل مادي ضئيل لا يكفي لشيء، لذلك  يلجؤون للسفر، رغم تقدمهم في العمر وتدهور صحتهم لكسب لقمة العيش عن طريق أمسيات أو ندوات، حتى لو كانت تزيد من إرهاقهم صحياً وبدنياً.

كم من شاعر عمل طيلة عمره وأفنى صحته وشبابه في جريدة أو مجلة أدبية ليجد نفسه في الكبر لا يذكره أحد،  وبلا رعاية صحية أو مسكن، كم من روائي أفنى حياته في الكتابة، ومع ذلك أصبح من حوله يتسولون له العلاج على نفقة الدولة لأنه لا يملك ثمن العلاج الباهظ، وكم من مناشدات نقرأها كل فترة في الصحف للرئيس أو للوزير أو لاتحاد الكتاب، لعلاج الكاتب الذي تقدم به العمر، ونسيه المسئولون.

ما الذي تريده وزارة الثقافة من المثقفين؟ هذا ما يشغلني الآن. هل تريد مكاتب وأروقة وندوات ولجان وأوراق وسياسات، للأسف فإن كل ذلك يذكرني بأجواء نظام مبارك القديم، الذي يهتم بالشكل الثقافي ويتجاهل المضمون، الذي هو عبارة عن أدباء مرضى أو يبحثون عن رعاية واهتمام من وزارتهم ولا يجدون شيئاً.

لا يهم بالنسبة لي أن يكون جابر عصفور وزير الثقافة المصري، قد عمل تحت سلطة مبارك أو السادات أو أي رئيس آخر، فمعظم الناس ليس لديهم رفاهية اختيار مديريهم أو ترك العمل إذا اكتشف فساد رئيس المصلحة.

ما يهمني، وما أريده فعلاً من وزير الثقافة هو أن يدرك أنه واحد من المثقفين، وأنه موظف لخدمتهم ولصالحهم أيضاً. وأنه لا جدوى من ثقافة تهتم بمنشورات ولا تحارب من أجل كرامة المثقف والإنسان. على وزارة الثقافة أن تعمل على البحث عن مثقفيها الكبار وتطلب وتحترم قدراتهم وتعاملهم معاملة تقدير واحترام.

ما يهمني هو ألا يسعى كاتب كبير أو شاعر إلى المنح، وكأنه يطلب حسنة من الوزير ومن ومؤسسات الثقافة، بل أن يشعر كل شاعر وكاتب أن عليه أن يطالب بحقه من وزارة الثقافة، لان ما يطلبه ليس منحة من وزير بعينه، بل هو حق له.

لسنا في حاجة لننتظر حتى يصاب أديب بسرطان، أو فيروس سي، أو يحتاج إلى علاج بالخارج، كما حدث مع عشرات الكتاب من قبل، حتى نبدأ في الحديث عن حقوق الكتاب الكبار في الحياة الكريمة، بل يجب أن يبدأ ذلك الآن، حتى نستعد لما هو قادم، إذا أردنا حقاً أن يكون للثقافة دور حقيقي.

لا يمكن أن نتحدث عن ثقافة حقيقية، ومؤثرة، وذات جدوى، قبل أن نمنح التقدير لثقافتنا الحية من كتاب وشعراء ومسرحيين ونقاد، بدلاً من تكريمهم في أوراق بحثية وتماثيل، ولكن بعد وفاتهم، وبعد فوات الأوان.

لا أريد من زوارة الثقافة أن تكون مثل حفاري القبور، بل أريد أن نكبر بها ومعها على تقدير الموهبة وتبجيل مثقفينا الكبار الذين ليسوا الآن في كامل شبابهم ليظلوا يتعاركوا مع الحياة، كما كانوا قبل أن نولد نحن بسنوات لنحكي.

 

 

مقالات من نفس القسم

محمد العنيزي
كتابة
موقع الكتابة

أمطار