قصة لعمار علي حسن.. وقراءتان نقديتان

عمار علي حسن
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

رأيتُها تمضي

قصة لـ عمار علي حسن

في الميدان الفسيح وقت الظهيرة، رأيتُها تمضي مثقلةً بأيامها، تدوس الإسفلت على مهل، لكنه كان يبتلعها، رغم ضخامة جسدها، الذي كان في أيامنا البعيدة مضرب الأمثال في الرشاقة والليونة والدلال.

كنتُ عابرًا في الاتجاه المضادّ لمشيها، كي ألحق موعدًا ضربته مع أصدقائي القدامى، الذين كان بعضهم يعرفها، وأحدهم هام بها عشقًا في أيام الصبا، ولم يكفَّ عن تذكرها كلما جمعتنا اللقاءات المتباعدة على مقاهي وسط البلد، ويقول لنا وهو غارق في الحيرة والأسى عبارة سبكها في رويَّة مع تقادم الزمن، كان يستعذب دومًا النطق بها أمامنا، وهو يميل بحديث عنها: “توقفت أيامي عندها، ولم تُزِحْ فتنتُها من عيني أيَّ فتاة أخرى، فبقيتُ مخلصًا لها بعزوبيّتي الخالصة”.

لم أجعلها تراني، فربما تتذكرني فأكون شاهدًا على انكسارها، وهي التي كانت تشمخ بأنفها في وجه صاحبنا العاشق، وتهمس لغيره بأنها لن تكون إلا لثري وسيم. لكنني لم أستطع أن أمنع عينيَّ عن متابعتها وهي ترفع خطوات بطيئة تدفعها نحو محطة الحافلات التي تغصُّ بالمنتظرين المتعبين.

كانت تحمل في كل يد كيسًا من البلاستيك الأسود، وحذاؤها يئزُّ متخليًا عن تلك الطقطقة التي كانت ترسل موسيقى تنخلع لها القلوب أيام صباها، حين تختلط بحفيف مشاكسة النسائم الطرية لشعرها البني المسترسل، ولطرف فستانها سخي الألوان.

مددت بصري بشدة، حتى كاد يخترق ما تحمله، فأدركتُ أنه ربما يكون حبات من خضروات أو فاكهة اشترتها من سوق قريبة رخيصة، يهلّ عليها الموظفون بُعيد الظهر لشراء حاجات بيوتهم البسيطة.

حين انضمت إلى الواقفين، واستدارت في اتجاه نهر الشارع الذي يشق الميدان، تمكنتُ من اختلاس نظرات خاطفة إليها، ارتدَّتْ إليَّ محملةً بصور لتجاعيد تتابعت في عنقها، ومساحيق رخيصة تُلطِّخ وجنتيها المنتفختين، وخصلات شعر تهدلت على كتفيها العريضين، ونظرات كسيرة إلى الفراغ الساخن.

تعجبتُ من هذه المصادفة التي اغتالت صورة بديعة لا تزال محفورة في رأس صديقنا العاشق وعينيه، وكان عليَّ أن أكتم ما رأيتُ، وأصبر على ما أسمعه منه حين جلسنا متقابلين، وراح، كعادته، يسهب في وصف محاسنها، ثم يغمض عينيه، ويردد عبارته الأثيرة في تبتُّل وامتنان.

***

أحمد عزيز الحسين

قراءة نقدية لقصة “رأيتُها تمضي” لعمّار علي حسن

أحمد عزيز الحسين

هذه قصّة قصيرة للأديب المصري عمّار علي حسن، وهو باحثٌ، وروائيٌّ، وقاصٌّ مصريّ معروف، له بصمةٌ خاصةٌ في السرد العربيّ المعاصر، ونتاجٌ أدبيٌّ وفكريٌّ ثـرٌّ، وقد قرأتها في صفحته الفيسبوكيّة فأعجبتُ بها لما فيها من تقطير وتكثيف، وسرد مراوغ، وبراعة في رسم الشخصية، وقدرة على اللعب بالزمن، وتوظيف تقنياته في بناء السّرد، وملاحقة تشظّي الشخصيّة، وما انتهتْ إليه من مصير دراميّ فاجع، ولذلك كتبت عنها تحليلا نقديّاً رغبت في نشره هنا، وفيما يلي نصّ القصّة والتّحليل لعلهما يحظيان بحوار نقديّ حولهما.

هذه قصة تحتفي بفنّ الحكاية في تشكيل مبناها السردي، وتحرص على استثمار تقنيات القصّة الكلاسيكية في صياغة هذا المبنى، سواء في قدرتها على بناء استهلال سرديّ بارع يحفّز القارئ على المتابعة، أو في رسم حبكة شائقة، ونهاية بديعة ودالّة، أو في تمكُّنها من استثمار تقنية (الوصف البصريّ الخلاق) في تقديم الشخصية للقارئ، فضلا عما حقّقه ذلك في تشكيل المستوى الدلالي للشخصية نفسها، والإفصاح عمّا طرأ عليها من تغيُّر وتراجع أمام حركة الزمن الموّار الذي لا يرحم.

وقد أحسن الكاتبُ في توظيف حركة الشخصية (المثقلة بالرتابة) للإيحاء بما طرأ عليها من نكوص وهزيمة في واقعها المثقل بالخيبات والإحباطات، إذ إن الفتاة التي كانت قادرة على الهيمنة على المكان، ولفت أنظار من يمشي في الشارع، أمستْ مهزومة ومحبَطة ومهمَّشة أمامه، وقد استطاع إسفلتُ الشارع (ابتلاعَها) بعد أن كانت تدوسه، وتهيمن عليه، وجعَل حركتَها (رتيبةً) وبطيئة، وبدلا من أن تكون (طقطقة) الحذاء الذي تنتعله دليلا على شموخها، وعنفوانها، واحتدام نشاطها، وتمسُّكها بحلمها، أمسى حذاؤها (يئزّ) مصدراً صوتا دالا على التعب والانسحاق بعد أن كان صوته السابق (الطقطقة) دليلا على الشّموخ والقدرة على المواجهة والتّحدي.

وقد استثمر الكاتب (تقنية الوصف) بدلا من تقنية (الحذف الزمني) لملاحقة ما طرأ على مظهر الفتاة الخارجيّ من تغيّر، إذ إن التجاعيد غزت وجه الفتاة الناضح بالفتنة والجمال، وأجبرتها على الاستعانة ببعض المساحيق الرخيصة لتغطية الآثار التي تركها الزمن على وجهها، وأمستْ دليلا واضحاً على هزيمتها وتراجعها أمام حركة الزمن الموّارة التي لاترحم، كما كانت دليلا على تراجعها عن فعل الهيمنة على المكان ومسار الحكي، وهو ما أكدته (نظرتها الكسيرة) التي كانت توجهها إلى (الفراغ الساخن) وهي تتقدم نحو محطة السيارات.

والقصة تحمّل الفتاة المسؤولية عمّا آل إليه حالها من إحباط؛ إذ إنها كـ(حميدة) في (زقاق المدق)، رغبت في تغيير واقعها من خلال الاتّكاء على غيرها، والالتحاق بالشريحة الأعلى منها، لا من خلال فعل إنساني خلاق تقوم به، وقد جعلت شرطها للزواج ممن يرغب فيها أن يكون ( ثريّاً ) و( وسيماً) في الوقت نفسه، ويبدو أنها لم توفق في الوصول إلى ما طمحت إليه، واضطرت إلى الزواج من  رجل مهمَّش مثلها، فكان ذلك دليلا على هزيمتها المدوية والمحبطة معاً.

وقد حرص السارد المشارك على جعل الشاب، الذي تلهف للزواج منها، جاهلا بما انتهتْ إليه فتاةُ أحلامه من إحباط وترهّل في جسدها كي يُبقي شعلة التّوهّج والحلم متقدة في ذهنه، أي إنّه استثمر (انطفاء) حلمها للتأكيد على بقاء حلمه (متوهّجاً).

والقصة لا تأتي على ذكر الوقائع والأسباب التي جعلت الفتاة تخفق في تحقيق حلمها، وإن كانت قد لمّحت في المسكوت من متن القصّة، إلى أن تطلُّعها (البرجوازي) هو السبب في ذلك، وقد أدانتها القصّةُ، كما أدانَ نجيب محفوظ قبلها (حميدة) في (زقاق المدق)، وجعل من (آلية) تطلعها لتغيير واقعها وموضعة حلمها على أرض الواقع سبباً في ذلك.

ولاشكّ في أن الفتاة لا تتحمّل وحدها المسؤوليّة عمّا آل إليه حالها بل تتحملها البنية الاجتماعية المعطوبة التي تندغم فيها، والشريحة التي تتحدّر منها؛ إذ إن البنية نفسها لم تمكّن حبيبها من تحقيق حلمه فظلّ(عزباً) هو الآخر يحلم بها حتى بعد أن ابتلعتها البنية الاجتماعية، وجردتها من القدرة على تحقيق حلمها؟

***

زكريا صبح

عن قصة عمار علي حسن (رأيتُها تمضي).. تأويل مغاير متسع بحجم الوطن

 زكريا صبح

لم أتمالك نفسى بعد انتهائى من قراءة قصة عمار علي حسن المعنونة بـ “رأيتها تمضي” وقلت: وجدتها، وجدتها، لاننى دائم الانشغال بالوطن وبما كان علية وبما أل اليه فقد كنت متربصا بأى نص يحمل في طياته تجريدا فلسفيا و موقفا سياسيا يلخص المرحلة الحرجة التى نمر بها، لذا أقر وأعترف أن هذه القراءة، وهذا التأويل يخصنى شخصيا، وكاتب النص ليس مسئولًا أدنى مسئولية عن هذا النص الذى سينتج عن هذه القراءة، معتمدًا على منهج التحليل والتفكيك معا في تناول النص.

 وربما أكون مبالغا بعض الشيئ اذا قلت أن هذا النص يشبه المعادلات الرياضية أو التجارب المعملية الدقيقة فنحن أمام نص بمثابة المعطيات ولا بد لنا من استخراج نتيجة ما. واذا أردنا الوصول لهذه النتيجة علينا فك شفرته ووضع معادلات موضوعية لما جاء فى المعطيات، فمثلا لو بدأنا من العنوان باعتباره عتبة للنص، نلاحظ أنه مكون من كلمتين تشكلان جملة خبرية مفيدة جدا، ولكنها تحتاج إلى وصف حال هذه التى تمضى.

 وهنا لا بد للعقل أن يضع بعض الاقتراحات ومن هذه الاقتراحات التى توصلت اليها بعد الانتهاء من النص ( رأيتها تمضى حزينة،، أو رأيتها تمضى إلى أفول،،، أو رأيتها تمضى الى نهاية بائسة) ولن أقول الاقتراح الذى ألح علىَّ كثيرا وهو (رأيتها تمضى إلى الهاوية) لن اقترح هذا لأن الأمل لم يزل معقودا في إنقاذها.

 ثم إذا ولجنا الى النص فإن الكاتب يذكر الميدان الفسيح ! ولم يحدد لنا قدر هذه الفسحة لكنى رفعت الميدان الفسيح ووضعت بدلا منه ميدان الكرة الأرضية فى منتصف العالم حيث موقعها الجغرافى يتوسط العالم. وهى كما وصفها مثقلة بأيامها،، ما رأيكم لو جعلناها مثقلة بتاريخها !؟

وحسنا فعل أن جعل زمن المرور هو وقت الظهيرة حيث الشمس تكون فى منتصف السماء ولا سبيل _ لمن يدعون ضعف النظر _ القول بأنهم لا يرونها تلك التى تحاول العبور مثقلة بأيامها أقصد بتاريخها.

وليس عبثا أن تأتى هنا مفردة “الابتلاع”. هذا الفعل الذى يقوم به أسفلت الطريق، فهل ذات التاريخ المثقلة بهمومها تنزلق الى هاوية الابتلاع؟؟ وقد صارت الى السمنة والضخامة بما يوحى بالبطء وضعف الحركة وربما بالتوقف.

هل اقتربت المعادلة من الحل؟

وليكن السؤال هل اقتربنا من إماطة اللثام عن وجه النص الرمزى؟

هل هذه السيدة التى ذكرها الكاتب هى الوطن؟ وهل الميدان هو العالم؟ وهل الذى رأها هو الذى يهتم بأمرها؟ ويعرف كيف كانت رشيقة وخفيفة الحركة وممشوقة القوام يتغنى عشاقها بها؟

وهل حركته المضادة تشير إلى حركته نحو المستقبل باحثا لها عن مكان بينما هى تسير نحو الأفول والذبول؟

هل الذين يجلسون على المقاهى يلوكون بألسنتهم تاريخها الضارب فى الأعماق ويتغنون بجمالها الآفل، يحبونها حقا؟

لماذا يصر بعضهم على التغنى بجمال غابر ولا يريد أن يعترف أن محبوبته أصابها الكبر وأصبحت عجوزا شمطاء، لا تستطيع الحركة ولا تعرف لها وجهة؟

ويمضى الكاتب مشخصا حالتها المزرية التى آلت إليها ويذكر لنا من طرف خفى كيف أنها لم تستثمر شبابها وجمالها ورشاقتها فى الكسب من كد يديها، وكيف أنها عاشت وهم الارتباط بالأثرياء الذين سينفقون عليها!

أصابنى الحزن لما أصابها فقد تواكلت (هى ) حتى انسلخ الزمن من بين يديها لتصبح تلك العجوز غير القادرة على الحركة المنكسرة التى تحاول الهرب من واقعها بالمساحيق المبالغ فيها ! فهل تستعيد المساحيق لها شبابها الغابر؟

وحده الذى يعرف قيمتها وقف يتأملها وهى تمضى إلى نهايتها، وحده الذى يعرف أنها ضلت الطريق لذا رأيناه يسير عكس اتجاهها، وحده الذى يحلم لها بمستقبل مشرق لا يقوى أن يواجه أولئك الجالسين على المقاهى بالحقيقة!

يعرف أن مصيره التخوين إذا صدح أمامهم بحقيقة محبوبتهم، ولذا يؤثر أن يظل صامتا مستمعا لهؤلاء الباكين على أطلال جمالها.

لن يستطيع مواجهتم بأنها أصبحت متسولة أو تكاد وإلا كيف نفسر هذه اللقطة التى تقول إنها تحمل كيسين بهما خضروات رخيصة الثمن من سوق قريب !! هل نستطيع أن نرفع هذه الصورة غير المباشرة بجمالها الفنى لنضع الفعل الاقتصادى البشع ( الاقتراض ) أو نضع بديلا لها السلوك الانسانى الفاحش ( التسول )؟

هل نستطيع أن نستعيض عن هذه الشمطاء بحالها الرثة التى تتصنع جمالا زائفا وتستجدى رشاقة ماضية وتتصنع خطوات راقصة على أمل أن تعاود جذب الانظار وجمع المحبين حولها. أقول هل نستعيض عن تلك العجوز ( بمصر) التى نحن عليها مشفقون ولأجلها منكسرون ولها حالمون وعنها كاتبون ولمنكرى حقيقتها الذين يدسون رؤسهم فى رمال احلامهم كاشفون !!؟؟

إلى هنا أكون قد انتهيت من تأويل النص بما تركه فى نفسى من غصة، وربما كان من اللائق أن أقول سببا أو بعض سبب جعلنى أسير فى هذا الطريق:

١ – أن كاتب النص تؤرقه حال بلاده أيما أرق.

٢- إن كاتب النص ليس لديه رفاهية الحديث عن امرأة ذهب عنها جمالها ويسوق لنا قصتها من أجل الشماتة فيها لأنها استعلت فى شبابها على محبيها.

٣- ستكون دلالة النص ضعيفة إذا ما عرفنا قدر كاتبه، كونه روائيا كبيرا، وشاعرا كبيرا، و سياسيا كبيرا.

٤ ـ ربما كان ذلك التأويل وهما هيأته لى نفسى وليس له ما يؤيده وتظل قراءتى لهذا النص على هذا النحو مجرد اجتهادا فان أصبت فلى أجران وإن اخفقت فعسى أن أكون قد اشبعت رغبتى فى المحاولة.

مقالات من نفس القسم