جنازة جديدة لعماد حمدي..غواية الحكاية

جنازة جديدة لعماد حمدي
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

باهر بدوي

قد تظن أنك أمام عمل أراد وحيد الطويلة من خلاله استعراض معرفته بخبايا عالم الجريمة والمباحث وظروف التزاوج والطلاق بين العالمَين. صحيح أن الأديب دفعني لاستحضار مقولة تذكّرتها لأديب زميل: “لو أراد الأديب أن يكتب عن الهندسة، فعليه أن يصير مهندسًا”. في “جنازة جديدة لعماد حمدي”، تحوّل وحيد الطويلة لمجرم حين توغّل بين الأزقّة والحواري وعرّف القارئ بأحطّ المجرمين وحثالة المجتمع بشتّى أصنافهم، تحوّل لضابط مباحث وتحوّل لمرشد للحكومة، واستطاع بموهبة في الحكيّ أن يعرض للقارئ طقوس عقد القران بين الجهتين، التي لا يزال يظن البعض أنهما متضادتين. لم يحتج الأديب أن يتحوّل للصنف الثالث بالرواية، لأنه فنان بالفعل، ويحيا كفنان.

هل الفكرة من وراء النصّ هي عرض هذا العالم؟ لو كان الأمر بهذه البساطة – رغم الجهد المضني الذي بذله الأديب في التعرّف على هذا العالم – فما دور الفنّ وسط كلّ هذا العالم الجافئ؟ الحقيقة أنك تقرأ في “جنازة جديدة لعماد حمدي” مأساة مجتمعية يحياها الشّعب المصري كلّ يوم، وربما تحياها كلّ الشّعوب العربية.

بطل الرّواية ضابط مباحث، يحيا بقلب رسّام مرهف، خرّيج المدارس الفرنسية وحلم أن يكون رساما أو مذيع فرنسية، لا مكان له بجهاز الشّرطة. لكنه صار واحدًا بعد ضغط عصف به من أبيه الضابط. أبوه الذي ذاق هزيمة ٦٧، من ثمّ دفن كلّ شعوره بالعجز والحزن في تحويل بيته لثكنة عسكرية وأن يحيا ولداه منذ صغرهم ضباطا. أدرك الرّجل أن البقاء حيّا في مصر، يكمن داخل المجتمع، لا خارجه حيث الهزيمة. أمّا الشّعب، فما أسهل الانتصار عليه:

“لو ترك أبناء الضبّاط المهنة للرّعاع، سيتسلّل الأوباش لحياتنا ولن نستطيع أن نعيش. ثمّ إن الزّمن القادم زمن الضبّاط وأنا أعرف أكثر منك”

“لكن احيانا تقول لنفسك إنه يريد أن يحقّق من خلالك ما لم يستطع تحقيقه لنفسه، يريد أن يطمئن على أن عِرْق الشرطة يسري في دمك”

لم يقاوم البطل ولو بكلمة. رضخ لسلطة أبيه. لم يقم بفعلة أخيه، الذي تمرّد على الأب وهاجر بلا رجعة. عاش في سلك الشّرطة دون التفكير ولو لمرّة واحدة بتقديم استقالته وأن يحيا حياة فنان كاملة، رضي بلمز زملائه وتسميّتهم له بـ(فجنون). لم يجد العزاء سوى في علاقاته بالمسجّلين، على الأخصّ بـ”ناجح” – الشّهير بالدكتور، امبراطور الجريمة والمرشد الأول لدى الحكومة.

وراء هذا الحنين للمجرمين قصّة، تتلخّص في بُعد إنساني هو رؤيته في ناجح، ومن معه من مسجّلين، القوة التي افتقر لها وصِدْقهم وإخلاصهم في ممارسة الجريمة، بينما اختار هو الدفن حيّا في سلك الشّرطة:

“لكأنّك اكتشفت أبطالك، وجدتهم، هؤلاء الذين يصرّون على اقتراف فعلٍ ما، مهما كان ثمنه ومهما كان سيئا في عرف القانون والمجتمع”.

لا يحيا الضابط كضابط. انساق وراء إنسانيته التي تتجلّى في كرمه لزملائه بالقسم ومآدب العشاء التي كان يتكفّل بها، ولا يعذر أحدا عن حضورها، بدءا من المأمور نهاية بالسّعاة والعساكر. يحيا عالمه الخاص بين لوحاته وقصص الحب. رأيت تضادا حادا استطاع الأديب توظيفه بروعة، فالظابط الرّسام وقع في حب “قمر” الرّاقصة وفتاة اللّيل سابقا، و”ضيّ” الهشّة الرّقيقة، عاشقة القطط. هل يحب الفنان بنفس طريقتنا؟

“الفنانون يقعون في الحب في ثانية واحدة، ثانية صادقة، يقطعون الطريق الطويل الذي يستغرقه الآخرون في لمح البصر، تقع عيونهم على الروح، يختصرون الدنيا بسرعة الفهد، يختصرون التنهدات”.

هل كان هذا هو نوع الحب الذي انتظرته منه الفتاة؟ أم أن مقصدها كانت سلطته؟ حين اكتشفت غلبة روح الفنان على حياته، أخذتها الحيرة والتردّد. أي شخصية هو؟ هى كسائر المجتمع، تبحث عن الارتباط بأي سلطة، لا تبحث عن فنان. أدرك الضابط الحقيقة يوم وفاة قطط ضيّ وانهيارها. رأى نفسه في القط زغلول، المتيّم بحب القطة إلزا. تمنّعت إلزا رغم حبه الشّديد لها. في النهاية تعاركا وتوفى كلاهما. قامت الفتاة بجنازة مهيبة للقطة في حين كانت تفكر في إلقاء زغلول بمقابر الصدقة. وصف المشهد جاء مأساويا حزينا.

كذلك هو مصير الفنان والمبدع في المجتمع. المجتمع لا يحتاج للفنانين المبدعين. المجتمع محموم بالوصول للسّلطة ولو بالتحايل. كذلك كان مصير الفنان الراحل عماد حمدي الذي وصف الأديب مشهد جنازته الخاوية على نحو يمزّق نياط القلوب. هذا المجمتع أصابه مرضين: الصّراع المحموم للوصول للسّلطة بكل بريقها، لشعوره الدائم بانعدام الأمان ورغبته في البقاء، والصّمت والرضوخ للسّلطة كسائر الشّعب. أو الموت المهين المؤسف للفنان المرهف، كجنازتي عماد حمدي وزغلول القط، وحياة الضابط الرسّام بين الفئتين. 

“إنها لعبة السّلطة. من يملكها ينتصر ويدوس على القانون، من الأصغر حتى الراس الكبيرة، قانون واحد”.

صور عديدة رسمها الأديب في سعيّ المواطن للوصول للسّلطة، بدأها بالأب الذي اتخذ من مهنة الضابط درعا يقي به نفسه وولديه به بعد هزيمة الحرب، مرورا بناجح دكتور الإجرام (تأخذنا الرّواية إلى جنازة ابنه المهيبة بكل ما تعبق به من مظاهر قوة قبل مظاهر الحزن ووفرة الحضور من شتّى أصناف المجرمين والمخبرين) السّباق المحموم بين المجرمين لكسْب الشّرطة، نرى المزوّر الذي انتحل صفة ضابط لسنين، وظلّ يكذب على نفسه حتى بات يرقّي نفسه ويزيد من النجوم على كتفيه ويصدر لنفسه أوامر بالنقل ويتصدّر لخدمة الناس:

“لكن النخاع المشحون بهرمون العظمة والسّلطة صعب أن يتوقّف ويتحرّر من نشوته. صعب أن يحال على المعاش ويأخذ معه سلطته”.

“كلّ الأمراض تشفى، وكلّ الهرمونات تقلّ مع العمر، إلّا هرمون السّلطة والعظمة والانتفاخ”.

 ثمّ المواطنون العاديون الذين حلموا بالسّلطة طويلًا: عبقرينو، الشّاب الذي حلم بعمل المباحث، واستطاع كسب المباحث في صفّه بعد خدماته الذهبية في حل ألغاز الجرائم لدرجة توكيل مهام الضباط له، كاعتقال المجرمين (مفارقة بينه وبين الضابط، فالأول حلم بأن يكون ضابطا، والثاني دُفن حيّا في المهنة) وباسل الذي قام بانتحال شخصية الضابط لمواعدة فتاة. الكلّ يلهث وراء السّلطة، والرّسام المرهف العاشق زاهد فيها، ويستحضر جنازة عماد حمدي في أكثر من مشهد لرؤية نفسه فيها، ومقارنتها بجنازة رتبة كبيرة بالشرطة. لازلت أراه المشهد الأكثر مأساوية في النصّ:

“جنازة فقيرة لو حضرها عُشر من أسعدهم لامتلأ ميدان التحرير عن آخره، جنازة تافهة مقارنة بجنازة مدير أمن القاهرة لو توفّى الآن”.

لا بقاء إلّا لصاحب السّلطة في مصر. كلّ مصري لا ينفكّ يتمسّح في اللّواء فلان، والمستشار علّان، ووكيل الوزارة الفلاني، والعقيد علّاني بالقوّات الخاصّة. صادفت رجلًا ذات ليلة لم يتوقّف عن الحديث عن مشاركته في عمليات اعتقال الإخوان المسلمين وكيف أنه ومن معه (معه تشي بسلطة ما) كانوا (بيـجَرّوا الإخوان قدّامهم كالمعيز). في النهاية، فضحه القهوجي أمامي وأجبره بالاعتراف أنه مجرّد سائق لنقيب شاب. بل مجرّد مدني.

لا أميل للأديب الذي يُفضّل “المشي جنب الحيط” ودوما ما أكِنّ كلّ الاحترام للأديب الجرئ المقتحم، الذي يضرب تحت الحزام، وهذا ما رأيته في كلمات وحيد الطويلة في انتقاده للأوضاع المُزرية والمأساوية:

“كلّ حاجة في هذه البلد قديمة، موتور عتيق، الماكينة والتروس أيضا قديمة، كل ما يفعلونه هو تغيير الزيوت فقط” – “لا تداول للسّلطة، كل ما يحدث هو تغيير الوجوه لا أكثر”.

“الضباط يقضون نصف يومهم في الشّوارع، وتراجع الأمن العادي لحساب السياسة” – “ارتفاع معدّل الجريمة والعنف في العقد الأخير لانعدام الأمن لأجل المواطن”.

بقي الحديث عن حكايات المجرمين وأصنافهم والتي أراها بين مسلّية وصادمة، بعضهم مضحك، بعضهم صادم، بعضهم يستحق التعاطف. استطاع وحيد الطويلة وصف عالم سفلي من حثالة المجتمع لا ندرك له وجودا، بل ونحت شخصياتهم ووصف خصالهم كما للأديب نحت شخصياته، دون السّماح للحدث بالتغلّب عليهم.

أحببت تقنية السّرد الحديثة، الرّاوي يتبدّل بين مخاطبة القارئ، ومخاطبة الضابط، ومخاطبة ناجح وأخيرا راوي مشارك، وهى توليفة حديثة لم أصادفها سوى مرّات معدودات في قراءاتي.

 

مقالات من نفس القسم