ما بعد الطاهر وطار… الرواية الجزائرية في ضيافة الخطاب النقدي

موقع الكتابة الثقافي uncategorized 22
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

قلولي بن ساعد

عندما نشر الطاهر وطار رواية “الشمعة والدهاليز” سنة 1995 اعتبر عدد من المثقفين الجزائريين  أن هذه الرواية  (الشمعة والدهاليز)   تعبر عن موقف الطاهر وطار المتعاطف مع الجبهة الإسلامية للإنقاذ ومع ما كان يسمى آنذاك بجماعة سانت إيجيديو وأن الطاهر وطار أعلن هذا الموقف من داخل الرواية وليس من خارجها فقط.

وهذا غير صحيح فالطاهر وطار هو مثقف ماركسي ولم يتنكر لماركسيته حتى عنما كان يكتب رواية “الشمعة والدهاليز” رغم أنه تلقى تكوينه الدراسي عندما كان شابا  بمدارس جمعية العلماء المسلمين بقسنطينة قبل أن يسافر إلى تونس ويشتغل في الصحافة التونسية زمن الثورة الجزائرية ويتعرف على عدد مهم من رموز اليسار التونسي. 

وهو يقدم نفسه بوصفه  روائيا معنيا بالتاريخ / تاريخ حركات التحرر العربية المدعومة من قوى اليسار العربية في المغرب والمشرق العربي وفي دول ما بعد الإستعمار الناشئة.

والطاهر وطار لا يتجنب  نقد أخطاء النخب السياسية الحاكمة عندما (تتبرجز) بتعبير السوسيولوجي الجزائري عمار بلحسن  ويكون من نتائج ذلك صعود التيار الإسلامي وإندفاعه بإعادة شحن عواطف الجماهير المغلوبة على أمرها وهو ما حدث بالضبط   في تناغم معلن مع قول شهير لماركس القائل: “أن تاريخ الشعوب هو تاريخ النزاع بين الطبقات الإجتماعية”.

وهذا لا يعني تحديدا أن رواية “الشمعة والدهاليز ” هي رواية موقف مع حزب جبهة التحرير الوطني في عهد عبد الحميد مهري ومع الفيس ومع جماعة سانت إجيديو لأن الرواية ليست خطاب سياسيا ولا خطاب دينيا أو إجتماعيا.

والروائي لا يكتب الرواية من أجل يعبر عن موقف (مع أو ضد) أو يتبنى خيار سياسيا أو إيديولوجيا.

فليس هذا أو ذاك شأن الرواية أبدا. 

بل هي خطاب فني يتوسل جميع الإمكانات المتاحة أمام الروائي لقول مالم تقله أو سكتت عنه كل الخطابات الداخلة في نسيج الرواية أو ” خطاب الأقوال” بالتعبير الأكثر دقة الذي يحدده جيرار جينيت.

أي الخطاب الذي يقوله الراوي وتقوله الشخوص الروائية في حواراتها الداخلية أو  الخارجية وداخل حركة السرد الروائي.

ومن كان يظن أن الرواية قد تتطابق مع الخطاب السياسي أو الخطاب الديني أو تنوب عنهما فهو حتما لا يعرف ( ما الرواية. ؟  ).

وعليه أن يمارس على ذاته نقدا ذاتيا أو يراجع معارفه  قبل  أن يفكر في الدخول بين طيات ” زحام الخطابات  ” بتعبير عبد الله العشي

والطاهر وطار نفسه يزيل هذا اللبس والغموض بين الخطابين السياسي والروائي عندما يعترف بأن ” وقائع الشمعة والدهاليز  تجري قبل إنتخابات 1992 التي خلقت ظروفا لا تعني الرواية في هدفها الذي هو التعرف على اسباب الأزمة وليس على وقائعها ” ( 01)

حدث هذا في الزمن الذي عاش فيه الطاهر وطار وكتب من أجواءه روايته ” الشمعة والدهاليز “.

ومابين زمن الطاهر وطار زمن التسعينيات من القرن المنصرم والزمن الحالي الزمن المعولم  تحولات جديدة برزت فيها أسماء روائية اخرى.

وواصل بعض الروائيين من جيل الطاهر وطار حفرهم في باطن الذات الجزائرية لتقديم نصوصا  روائية تضاف إلى ارصدتهم في الكتابة الروائية. بصرف النظر  عن مستوياتها الفنية والبنائية وموقف النقد منها.

وأنا هنا لا أتحدث عن النقد الأكاديمي الذي لم يقترب من الرواية إلا نادرا ومع بعض التجارب المخصوصة  تجارب آمنة بالعلى والسعيد بوطاجين ومخلوف عامر ومحمد الأمين بحري ولونيس بن علي  واليامين بن تومي  وعبد الرحمان وغليسي وعلال سنقوقة للتمثيل ليس إلا…

رغم أنه في الواقع لا تكفي قراءة  بعض الدراسات القليلة حول راهن الرواية الجزائرية للحكم على تجربة الكتابة النقدية في الجزائر وإختزالها في عدد من الدراسات ذات الصلة بالنقد الأكاديمي المرتبط بآفاق المأسسة النقدية ذات الصلة برغبة الباحث في الترقية العلمية والمهنية  للشروع في تقديم بعض الأحكام الجاهزة وتوزيع صكوك الغفران على عدد من النقاد لأسباب معيارية ومزاجية  ليس إلا…

ولهذا السبب وأسباب أخرى كثيرة لا زلنا أبعد ما نكون عن  الوعي العميق ” بأرضنة ” الكتابة الروائية بوصفها نسقا  ثقافيا  مضادا لأنساق الهيمنة الروائية النسق الذي إستحوذ على ما كان للشعر من قداسة.

 ينتجه فرد أو مجموعة من الأفراد المنبثقين  من فضاء أرضي بمدلولاته الإجتماعية والجغرافية والثقافية والأثنية والهوياتية والرمزية.

على نحو ما تفعل جميع التجارب الإنسانية في حقول المعرفة المختلفة  في الكتابة والبحث والإستقصاء لرقي ورفاه إنسان الأرض الذي تقع على عاتقه عمارة الأرض في إطار المتخيل الروائي كمتخيل  للأرضنة الفضاء المناسب لأنسنة الكتابة.

وجعلها تقيم شرطها الوجودي العلائقي داخل كيان الإنسان محور الكتابة ومدارها.

 لأن الناس بحسب عبارة حازم القرطاجني ” أطوع للتخييل منهم للتصديق “.

   ومع ذلك لا ينبغي أن نعمم  فهناك دائما بعض الإستثناءات.

و”هناك دائما العشب بين الأحجار” بتعبير جيل دولوز.

فلنبتكر شيئا جديدا ينزل السارد الخارج / نصي أو المؤلف المنتج للنص الروائي من سماءه للعودة به إلى سابق عهده ومدافن طفولة نصه أي إلى فضاء الأرضنة.

حيث يقيم القارئ في إنتظار الروائي الذي عليه أن يضع رجليه على الأرض ويكف عن إعتبار ما يكتبه هو أقرب إلى ” النص المؤله ” أو النصوص المؤلهة التي أدانها فيلسوف فرنسي هو لوك فيري في كتابه ( الإنسان المؤله أو معنى الحياة ).

واضعا إياها تحت مشرط النقد الدنيوي عندما كان بصدد البحث عن نسيان المعنى في النصوص اللاهوتية للكشف عن دنيوة النص من خلال نصوص فلسفة الدين التي مارس عليها تفكيكا هو أقرب للنقد الدنيوي أو النقد العلماني لنصوص نسيان المعنى  كما يتجلى في فصل من فصول كتاب الناقد والمفكر إدوارد سعيد ( النص والعالم والناقد ) الفصل الذي خصصه للنقد الدنيوي أو النقد العلماني  

وأن على النقاد أن يلتزموا بشروط الضيافة الملزمة لهذا التعالق الهرمي “ككتاب عموميون” يقدمون نفدا ناعما لإله روائي لا يقبل بالإختلاف أو الخروج عن نص التطابق الروائي ومن يفعل ذلك فهو ليس ناقدا ولا ينبغي له أن يكون.

ووجب رميه خارج دائرة الإعتراف والقبول به “ناقدا ملحقا ”  بنص العبارة الذي ذكرها تودوروف في كتابه ( نقد النقد )  عندما إعتبر أن الخطاب النقدي  ليس ” خطابا ملحقا سطحيا بالأدب بل هو قرينه الضروري ”  (02).

  أراد ذلك الروائي أم لم يرد مما أحدث فجوة وهذه الفجوة ليست فجأة نقدية فقط بل هي فجوة مسافتية نسي النقد أن يتحدث عنها للوقوف على مدى جاهزية  النقد  للنظر للرواية  الجزائرية في مرحلة ما بعد الطاهر وطار بعين نقدية.

ولا بأس ان يقترب الناقد المحلل  للرواية من كمال أوديب  من مفهومه ” “الفجوة مسافة التوتر ” المفهوم الذي قام بنحته  كمال أبوديب  عامدا لإتخاذه كأداة إجرائية لتحليل بعص النصوص الشعرية العربية في الزمن البنيوي الذي أخلص له كمال أبوديب إخلاصا كاملا  للشروع في وضع مسافة نقدية  بين زمنين من أزمنة الكتابة الروائية.

الزمن الأول:

  هو زمن الطاهر وطاهر فيما الزمن الثاني:

 هو زمن ما بعد الطاهر وطار           

على الرغم من أن هناك نفر من الروائيين أكثرهم لا يقبل هذا التصنيف المعياري أو المقايساتي  المابعدي ويشعر بالإنزعاج   من النقد الذي لا يقدم رؤية تطابقية مع النص المقروء.

ويحاول التحرر من هيمنة المؤلف بالمعنى البارتي الذي كان أول ناقد بشر  ” بمؤت المؤلف ”  لقراءة النص الروائي بعيدا عن نفوذ وهيمنة  المؤلف وقراءته الشارحة التي لا تفيد كثيرا الناقد الحر عندما يواجه النص الروائي خاليا إلا من ذائقته النقدية.

وهذا بالضبط ما يكشف عنه الروائي الفرنسي  بلزاك وهو يوطن نفسه على تحمل بعض سهام النقد الموضوعية.

السهام التي جعلته يعترف بإن ” إنّ المؤلّف الذي لا يوطّن نفسه على التعرّض لنار النقد لا ينبغي له أن يشرع في الكتابة، كما أن المسافر لا يشرع في رحلة بعيدة  معتمدا على سماء دائمة الصفاء ” (03)

وهذا طبيعي جدا فالنقد في أي زمان ومكان يزعج الذات العربية التي كان يرى محمد عابد الجابري بأنها لم تقبل النقد في تاريخها الطويل إلا في صورتي مدح أو هجاء.

وهو الأمر الذي لا ينكره ناقد عربي آخر هو محمد عبد الله الغذامي الذي يذهب بعيدا في تفكيك العلاقة القائمة بين الناقد والمنقود وهو يرى أن “النقد العربي لم يكن في أي مرحلة من مراحله الطويلة  خطابا في المحبة ولم يكن أيضا خطابا محايدا إلا إن تخلى عن مهمته الحقيقية ” (04).

وهذا أمر صعب التحقق وفي نظره أن  هذا المنظور اللاطبيعي للنقد في مخيال المبدع لا يخص فقط الثقافة العربية بل يطال بعض الثقافات الآخرى ضاربا لذلك مثال اللغة الأنجليزية التي تحمل فيها ” كلمة نقد مرادفا دلاليا وإجتماعيا ذا بعد سلبي ” (05).

ويزداد الأمر خطورة مع الغذامي  في تجاربه مع النقد الثقافي حيث صار النقد الثقافي مشروعا في كشف الأنساق المضمرة و” فضح العيوب الثقافية والإبانة عن  الخلل بإسمه أو منحه إسما لم يكن له ” (06).

وهو أمر يعقد بالطبع من  ديمقراطية الفن الروائي وحواريته بالمعنى الباختيني.

عندما تلتزم الرواية بشروط الضيافة النقدية طالما أنها أي الرواية لا ترى مانعا في أن تستدعي الخطاب الديني مثلما تستدعي الخطاب السياسي فلماذا لا تستدعي الخطاب النقدي والإلتزام بشروط ضيافته مثلما تفعل مع الخطابين الديني والسياسي… ؟.

يحدث كل هذا في ظل عنجهية  بعض كتاب الرواية الغير المضيافة حتى بين أعضاء الجسد الثقافي الواحد الرافض للآخر المحلي القادم لجنس الرواية من جنس آخر.

خاصة عندما ينفصل أحد أعضاء هذا الجسد الثقافي عن ذاته  لمجرد أنه توج هنا أو هناك فأصبح آخر يحدث غيره بلغة غير مضيافة لغة هي أقرب لسياسات الإقصاء بدل أن تنبع من صلب سياسات الضيافة.

رغم أن بعض الروائيين وليسوا كلهم يمارسون نوعا من الإزدواجية في التعامل مع الآخر ومع الغير بما في ذلك الآخر المحلي أو ” الذات عينها كآخر ” بمفهوم بول ريكور.

 ففي الوقت الذي يحضر الآخر في نصه حضورا طاغيا لا نجده يتعامل حتى مع الآخر المحلي تعاملا ديمقراطيا بل يشكل الآخر المحلي خارج النص خصما له مما يعني عدم إقترابه من   فلسفة الغيرية كماأسس لها إيمانويل ليفينياس أو بول ريكور  في أفقها التأويلي المرتبط بالأنا عبر مصنفه الضخم ” الذات عينها كآخر ”  أو متممها ديريدا الذي لا يريد أن يكون ضيفا ثقيل الظل على الآخر القارئ لدرس الضيافة.

 يحدث كل هذا في ظل تداخل الروائي بالتاريخي في صلب الرواية التاريخية أو الرواية التي تتخذ من التاريخ مجالا لها  كون هذا التداخل هو جزء من هذه الضيافة.

مع أنه لا يمكن للرواية أن تستقل بذاتها بعيدا عن التاريخ لأن كليهما  التاريخ والرواية يتخذان من لغة السرد مسكنهما بالمعنى الهايدغري.

ورغم ذلك ينبغي توخي الحذر من الوقوع في براثن ” الكسر التاريخي ” الذي مارسته الرواية الجزائرية في إستدعاءها للتاريخ على ما  يتبدى لنا في ملاحظات ثاقبة  جاءت في متن كتاب  للناقد الجزائري الدكتور رابحي عبد القادر الذي يقترح على القارئ إضاءة مهمة  كاشفا فيها عن ” إيديولوجيا الرواية والكسر التاريخي ” مقدما مثال الروائي الجزائري عندما يتخذ من بطله قناعا له.

وهو يحاول ” الإرتباط بالتاريخ إرتباطا فوقيا يعتمد على التعالي الإيديولوجي الناجم عن تعالي المثقف ” (07).

وبناء على ذلك يعتقد الدكتور رابحي عبد القادر بإن الروائي عندما يصر على التقنع ببطه واضعا المثقف وهو يعني ذاته  فوق التاريخ حتى التاريخ المسلح الذي لم تكن له يد فيه.” فهو حتما يرى نفسه هو الأجدر بالبقاء عندما يجرد السياسي والمؤرخ من الوعي الجمعي للأمة ” (08).

بما يعني الإقتراب من مجايلة أخرى لا صلة لها بالمجايلة التاريخية.

مجايلة يعتقد الدكتور عبد القادر رابحي أنها هي التي  تشكل مشكلة الروائي مع مفهومه للزمن المفهوم المتغير.

وهو ” يجايل جميع الثورات والحكام والأنظمة والإيديولوجيات مجايلة يبدوا فيها أطول عمرا من السياسي ومن المؤرخ ومن الإيديولوجي وأطول عمرا كذلك من أبطاله ” (09)

وهي بالفعل مشكلته عندما لا يرى في التاريخ بوصفه عنصر ضيافة فبدل أن يحسن ضيافته أو يتعامل معه داخل الرواية بنوع ” الحياة المشتركة ” بمفهوم تيزفيطان تودوروف فهو يلجأ إلى لي عنق التاريخ وجره بطريقة تعسفية في عملية هي أشبه بما يعرف في علم النفس الثقافي ” الإسقاط النفسي “.

 الإسقاط الذي يطال حتى مصير بطله والشخوص الروائية التي لا ترفض له طلبا بل تنصاع له إنصياعا أعمى.

وهي غير قادرة على ممارسة حقها في ” المعصية الإبداعية ” وما أدراك ودون ذلك بالطبع مصاعب جمة لم تتجاوزها بعد الرواية الجزائرية إلا نادرا.

…………..

إحالات 

01 ) الشمعة والدهاليز الطاهر وطار ص 06 منشورات التبيين الجزائر 1995

02 ) نقد النقد تيزفيطان تودوروف ترجمة سامي سويدان ص 16 مركز الإنماء القومي بيروت 1986

  03 ) العبارة لبلزاك وقد ذكرها الناقد العراقي الدكتور عبد الله إبراهيم في منشور له على صفحته في الفايسبوك

04 ) أنظر المقدمة التي كتبها عبد الله الغذامي لكتاب تمثيلات الآخر صورة السود في المتخيل العربي الوسيط لنادر كاظم – ص 09 منشورات المؤسسة العربية للدراسات والنشر الطبعة الأولى 2004

05) نفس المصدر ص 09

06 ) تفس المصدر ص 09

07) إيديولوجيا االرواية والكسر التاريخي مقاربة سجالية للروائي متقنعا ببطله  – عبد القادر رابحي ص 18 منشورات دار الوطن اليوم الجزائر الطبعة الأولى 2016

   08 ) نفس المصدر ص 19

09) المصدر نفسه ص 19

مقالات من نفس القسم