“جبل الزمرد”.. حينما حملت النساء عبء حفظ الذاكرة الجمعية

"جبل الزمرد".. حينما حملت النساء عبء حفظ الذاكرة الجمعية
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

نضال ممدوح

كما نجحت "شهرزاد" في حفظ رقبتها وحياتها من الانتهاء بأمر يلقيه "شهريار" إلى سيافه مسرور نجحت "منصورة عز الدين" باقتدار وجدارة أن تلهب خيال قارئ روايتها "جبل الزمرد". بل وتجعله يتواطأ معها في نسج حكايتها الناقصة من كتاب الليالي فيظل مشدودا لقلمها وهو يسطر لاهثا حكاية جديدة ــ ربما لن تكون الأخيرة ــ سقطت سهوا من جدتها شهرزاد.

وفي أحد مشاهد فيلم “رسائل البحر” يدور حوار بين أحد شخصيات الفيلم وصديقته فحواه أنه لن يجري العملية التي سيترتب عليها فقدانه ذاكرته للأبد٬ ربما أنقذت العملية الجراحية حياته من الموت لكنها ستفقده تاريخه وكل ما يمثله من وجوده الإنساني في العالم والذي هو جزء بالضرورة من تاريخ الإنسان في الكون وليس الأرض وحدها، من هذا المنطلق تجيئ رواية ” جبل الزمرد” عن الذاكرة سواء كانت جمعية أو فردية وحفظها هنا يتعلق بالتدوين /الكتابة بعدما حطم أهالي ” جبل قاف” تابو التسجيل المكتوب واتخذوه بديلا عن الذاكرة الشفاهية المتناقلة عبر الأجيال والتي تخضع مدي دقتها وصحتها بذاكرة الشخص الذي يحويها وما يمرره عبر هذا الحكي أو التدوين الشفاهي والتي ـ أيضا ــ تختلف من شخص إلى آخر.

بل وخرقوا للمرة الأولى تقليد وعرف اتبعوه أجيالا بعد أخرى “بحرمة” أن تدون النساء أو يكتبن من الأساس ليس تاريخ الملك وابنته الأميرة “زمردة” فقط وإنما تعلم فعل الكتابة نفسه والذي كانت استثنائه الأميرة زمردة، ورغم أن فعل التدوين سواء بالكتابة أو شفاهي قامت به النساء فنجد أن الرقوق التي سجلت فيها “مروج” كيف أحرقت زمردة وكيفية بعثها وعودة جبل “قاف” مرة أخرى ٬ “بستان البحر” التي تستهل السرد وتبحث عن صاحبة تحقيق النبوءة “هدير” والتي بدورها تسجل وتحول الشفاهي إلى كتابي مدون محفوظ لا تتعلق مصداقيته بذاكرة ناقله ولا بأهوائه.

استهلت عز الدين روايتها /حكيها باستهلال متشابك مع حكايات جدتها “شهرزاد” تستأنف فيه تلك المقدمة الجاذبة: كان ياماكان أو في الليلة التاسعة والتسعين بعد المائة: “في العام الحادي عشر من الألفية الثالثة وفي شقتي المطلة على نيل الزمالك٬ أنكفئ على التدوين بلا كلل، عالم قديم ينهار بالخارج وأنا مشدودة إلى كلمات مراوغة لا تكف عن التسرب من بين أصابعي ” وفي فقرة تليها تقول الساردة: “أراني طفلة فوق جبال الديلم في ستينيات القرن العشرين أعدو خلف أبي في تسكعه الصباحي وهو ينشد أبياتا للرومي أو العطار “.

لم يقتصر الاشتباك مع حكاية الجدة شهرزاد على عنوان الحكاية الناقصة والتي تستأنفها منصورة بل تتعداه إلى القالب الفني من تعدد الأصوات الراوية٬ وتعدد الحكايات قصة داخل قصة داخل قصة لا تحرص على تسلسل زمني خطي ٬ يربطها رابط مشترك “الأميرة زمردة” وجبل قاف بداءا من حكاية العملاق إيليا الذي خرج من مدينته مدينة الشمس قاطعا آلاف الأميال مرتحلا يطارد الليل٬ مرورا بالناجي الوحيد “بلوقيا” الذي وطأ جبل قاف ونجا من مصير كل من يقترب من جبل المغناطيس في مغامرة تتماهى كثيرا مع رحلات السندباد البحرية السبع٬ وليس انتهاء بالراعي زوج “مروج” التي كانت ترقب عن كثب كل ما يدور في جبل “قاف /الزمرد” وتدونه مسجلا في رقرق كما علمها جدها مستعينة بما أكمله لها “الطيف” داخل المغارة وكان خافيا عليها وظن أهالي جبل “قاف “أن اللعنة التي حلت بهم وأهلكت جبلهم ومملكتهم وأحرقت أميرتهم “زمردة” هو تدوين “مروج” لحكاية الأميرة زمردة إلا أنهم يطلقون سراحها بعدما أوصتهم زمردة بها:” التذكر هو السبيل الوحيد لإنبعاثها من رمادها الذي يحمله كبيرهم في بلورة خاصة“.

أجادت منصورة في رسم شخصياتها النسائية بطلات الحكاية المنسية من كتاب الليالي سواء “نورسين” المأسورة لدى الملك “ياقوت” بعيدا عن وطنها /ذاكرتها وتاريخها ولم يشفيها إنجابها زمردة من الحنين إلى ما كانته في سالف الأيام ورغم مرور الأعوام لا يبارحها شوقها لأرضها فتلجأ لملكة الحيات لتعتصر جسدها:” لم يبد عليها أي إنزعاج أو تألم٬ أغمضت عينيها ورفعت رأسها لأعلى٬ تطايرت خصلات شعرها الطويل فبدت في ذروة جمالها٬ حين أسلمت الروح كان ثمة بسمة عذبة تضيئ ملامحها مقرونة بشعور بالسلام “.

أما ابنتها “زمردة” محور الحكاية الذي تدور في فلكه الأحداث وتفضي إليه مصائر كل شخصيات الحكاية أو تنتهي إليه ٬زمردة الشغوفة بالآفاق البعيدة وشهوة المعرفة المتمردة على الإنغلاق داخل جبل قاف وعزلته التي يقيمها حول ساكنيه٬ الحالمة بإختبار قوانين حمورابي وأسرار بتاح حتب التي عرفتها من مؤدبها كبير الحكماء٬ “لكن كيانها كله كان مع الخيال وعوالمه المغرية“.

هدير التي أضاعت زمردة حينما أضاعت خاتم أمها الأخضر وهي صغيرة يتحول مسار حياتها وتنضج في أيام لتنذر الباقي من عمرها في البحث عن الحكاية التائهة من كتاب الليالي.

 

عودة إلى الملف

مقالات من نفس القسم