الكمال .. المدينة المفقودة!

سمر
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

سمر مجدي 

.

لطالما كان الكمال هو المدينة المفقودة التي يبحث عنها عدد لا حصر له من الأشخاص. الكثير من الناس أضاعوا أعمارهم هباءً بحثا عنها في أنفسهم وفي الأشخاص من حولهم وفي أنماط الحياة المختلفة،يبحثون في حسرة عن شيء لم نعهده في أي زمن مضى بما له من آلاف السنين ومن المؤكد أننا لن نعهده قط. تلتقط أعينهم الشيء الخاطئ وتترصد للقبيح ولو كان بين ركام من الجمال. فوجوده يخبرهم دومًا بخيبة مساعيهم لاستحالة الكمال!

. كم مرة التقيت بذلك الشخص الذي لا يقنع بأفعال الآخرين وبمنتهى السهولة يرى الفعل الناقص دونا عن كل أفعالهم،ليس لنكران جميل يلوث طبعه أو جحود، فذلك السم يطوله قبل أن يطولهم، يشهر سيفه تجاه نفسه أولاً لأن تلك الأفعال الناقصة والتي تتسم بالخطأ من وجهة نظره هي التي تكدر صفو المثالية حتى وإن صدرت منه وطالما كانت المثالية بالنسبة إليه قبلته ووجهة حياته إليها شد الرحال في رحلة لن تهتدي يوما لمبتغاها. فهو مع نفسه إن كان يسعى لتطويرها بكل الطرق إلا أنه يكبح جماح تطورها بالانتقاد المستمر حيث أنه لن يقنع يومًا بإي خطوة خطاها مهما كان لها من الوهج والنجاح. فكل خطوة تلقيه في خضم الإحباط والاكتئاب ومجزرة جلد الذات ورفض الواقع فهو والواقع ليسوا مثالين بما يكفي. فهو يعيش بمنطق “كل شيء أو لا شيء”، تشغله الندبة الصغيرة الملقاة على صفاء وجهه فتحجب عنه ذلك الجمال البادي كغيمة تحجب شمس بأكملها، إذا تعلم لغة لايقنع حتى يعرف خباياها أكثر من أهلها، وأذا القى خطبة طويلة تتسم بالسلاسة و الدقة لدغته الكلمة الوحيدة التي تلعثم بها فيسري التوتر والقلق في دمه ليغزو كلماته الباقية، يحيط بعينيه الفشل حتى وإن لحقه النجاح، من سماته الأساسية تدني تقدير الذات واتخاذ الموقف الدفاعي على طول الخط فنفسه تخبره سرا بإن ما يقدمه ليس بكافي مما دفعه أيضا للمماطلة في آداء مهامه فهو ما يزال يرى جهوده غير كافية. هذا الشخص وأمثاله مرضى بوهم الكمال والسعي إلى المثالية. نبتت في جذورهم تلك الرغبة ليس فقط بأن يحتلو المرتبة الأولى في كل شيء ولكن عليهم أن يستحقوا تلك المرتبة. قد تكون تربية أولئك الأشخاص في بيئة نسجت في باطنهم أن الآلهة تعيش في الجوار بيننا وأنهم لا يخطئون وإننا بالإمكان إن نكون منهم. . أو أن تلك التربية قامت على النقد المستمر لكل أفعالهم أو أن الحب لم يغمرهم بما يكفي لكونه حب مشروط مكلل بمعايير مرتفعة لا تتناسب مع إمكانياتهم. أو أنهم اصطدموا في كبرهم بواقع مغاير للواقع يحيط بهم في مواقع التواصل الاجتماعي، فمن المشاهير من ينقل صورة مغايره غير صادقة عن حياته سواء في شكلها الخارجي أو مضمونها، نسوا في خضم الحياة ومعاركها أن مواقع التواصل الاجتماعي حتى وإن كانت واقع فهي مجرد واقع افتراضي وليس حقيقي.

ينقلهم ذلك الاصطدام إلى صراع دائم مع واقعهم ليصلوا به إلى واقع مثالي، ومزيد من الاصطدامات. تشكل علاقاتهم بالأشخاص من حولهم شكل من أشكال الاصطدام فحين يكون الشخص بعيد عنهم يغزلون حولهم هالة مقدسة ويرفعونهم إلى مرتبة الألوهية ولكن حين يقتربوا وتتبدى بشريتهم بما لها من نقصان طبيعي يكون الشعور بالخزي والخذلان. وإن كنت اعتقد التعاسة في من يظن المثالية في الآخرين فالاتعس منه من يظن أن المثالية متاحة للنوال. ولكن ماهي المثالية في الأساس، إن كانت المثالية هي الكمال بحيث يكتمل الشيء بكل صفاته لنقص الكمال لافتقداه لصفة النقص، فحياة مثالية هي حياة مملة تسير على وتيرة واحدة تخلو من الإيقاع فوحدها اللحظات المتعثرة التي شكلتها أخطأنا وأخطاء الآخرين هي من تخلق لحياتنا معنى هي من تصنع منا الأشخاص الأجمل. يقول روس: “الأشخاص الأجمل من بين اللذين قابلتهم هم أولئك اللذين عرفوا الهزيمة والعذاب والكفاح والخسارة ووجدوا طريقتهم الخاصة للخروج من الأعماق السحيقة. هؤلاء الأشخاص لهم رؤيتهم وحساسيتهم وفهمهم للحياة، يملئهم التعاطف مع الآخرين والتواضع والبساطة والقلق المحب والعميق. الأشخاص الجميلون لا يأتون من لا شيء.”

حتى وإن كان للمدينة الكاملة المثالية وجود فبمفهوم من ستكون فللمثالية معنى نسبي يختلف من شخص لآخر، فكل منا يرى المثالية بعينه. فها نحن إذا بحثنا عن المدينة الفاضلة لأفلاطون لاعترضنا على صفات منها أو لاعتراضنا عليها بأكملها. إن كنت تريد أن تحيا في ظل سلام نفسي فعليك أن تتصالح مع بشريتك أن يتقبل عقلك أخطائك ويهدء قلبك لصفة النقص فيك، أسعى إلى المثالية ولكن بقلب محب وعقل مدرك بأننا نمتلك السعي فقط لا الوصول. انتبه لنفسك وما تخبرها عنك، وواجه الاحتمال الأسواء فمهما بلغ من السوء سوف يمر حتى وإن كان غير كاملا من وجهة نظرك.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
كاتبة مصرية 

مقالات من نفس القسم