حنان ماهر
تبحث بعض القراءات النقدية في أدوات التشكيل الفني للقص واستجابات هذه الكتابة إلى مفارقات الواقع في ظل ظروف اجتماعية وسياسية وذلك في مقابل مفهوم عملية الكتابة وما فيها من وظائف توصيلية وجماليات وأفكار أراد كاتب النص أن يعرضها من خلال العملية الإبداعية بوصفها إنتاجا يتميز بدرجة ثقافة ووعي وتجديد معين، من هنا يأتي السؤال:
كيف يُصنع ذلك الإنتاج؟ الذي هو النص.
جوهر الكتابة هو السعي إلى تحسين الواقع المعاش وتحرير الإنسان من الألم والتصدي للجهل وكل أمراض المجتمع.
الفن أساسه مغامرة أن تكسر حاجزاً أو تشعل فكرة في رأس المتلقي أن نكتب عن شيء مفقود أو مشاهدات غير مألوفة وهذا ما سنكتشفه بعد الانتهاء من قراءة رواية “فُلْك النور” للروائي فكري عمر.
الكتاب في رأيي يكتبون ما يعرفون في حالة من الكتابة الآمنة. وذلك لا ينفي مغامرة الكاتب في بعض مواضع النص فنحن أمام نص به براءة الطفولة ونزق الشباب وأحلام متكسرة ودموع لا ترى وخطوات فرضت على بطل العمل مشيها في حياة نفسية مضطربة. نقرأ في النص ص 140 “كان على أعتاب الجنون……..ماذا تختار؟
النص يجعلنا نسأل أنفسنا هل هو نص إصلاحي يركز على نقاط المرض في المجتمع أراد أن نصلحها وبالتبعية نصلح من أفراد المجتمع أم أنه فلسفة خاصة لم تكتب صراحة بل تفهم من طيات النص. نقرأ ص 68″ لماذا ينصب الناس لبعضهم فخاخًا رغم أن الجميع الصائد والفريسة…… ولو للحظات إضافية ” ص 140″ إذا كانت الدنيا هي نهاية المطاف فلم الخوف من ارتكاب جريمة؟!
العنوان.. هو مدخل للعمل الأدبي ومفتاح من مفاتيح فهم النص ومرشد لتلقي النص وفهمه والعنوان هنا اسم مركب واسم لإحدى شخصيات العمل التي لها تأثير كبير في مجريات الأحداث وينبه المتلقي أن سفينة النور أو الخلاص لابد لها من ربان يسيرها وهو العقل أو الوعي أو النفس السوية ونحاول أن نجد فُلْك النور.
الراوي هنا هو الراوي العليم وكأنه اخذ دور بطولة خاصة به يحرك أبطال العمل من خلف ستار كأنهم عرائس ماريونت ومسيطر تماما على الشخصيات . فهو رسم لنا وصف ذهني وافي ولم يهتم كثيراً بالوصف الجسدي كأن الكاتب يعمم وصف شكل الأبطال فهم موجودون في كثير من المدن والقرى والمجتمع ككل.
البطل الأساسي الذي تتمحور عنه الرواية هو أكرم سليمان الذي له حضور طاغي هو الشخصية المحورية وغنية بالصفات والمشاعر له شخصية مضطربة تنتهي نهاية مأساوية في تصاعد الصراع المكتوب كرمز لصراع عام في المجتمع. فهو لا يفعل ما يحب هو مدرس لكنه يحب الكتابة التي لا ينهي منها إلا القليل ص 15 ” أوراق مدون بها بدايات رواية لم ينته منها…. رءوس أفكار…….” يرى نفسه كهل عمره 32 سنة نقرأ ص 25 “رغم امتلاء ملابسه بهذا الكهل الذي تجاوز الثلاثين عامًا بعامين” شخص كتوم ووحيد لكنه ذكي ص 42 “طالما أن…..” و ص 43 “كيف تنفع…”
شخص حساس تنفلت عبراته تباعا ص 89 كذلك عنده خوف زرع فيه منذ الصغر وعنده براءة فهو يشاهد افلام توم وجيري وإسماعيل ياسين وفوق كل هذا هو أب حنون يحب طفلته الهام ويحتفظ بصورتها على اللاب توب. وهو شخص مضطرب يرى هلاوس ويسمع هواجس وأصوات.
وهناك شخصيات مساعدة من فُلْك النور وأصدقاءه وعائلته.
المبحث الأول: تقنية الكتابة
الكاتب استخدم عمليات البناء والهدم والالتباس والتضاد والمفارقة وذلك عندما رسم في بداية الرواية الشخصية الرئيسية التي تتمحور حولها الرواية في وصف غير مباشر لصفاته وبعد ذلك هدم هذه الشخصية من خلال كتابة اضطراباته النفسية و هواجسه.
وهناك الكثير من الالتباس في وجود خلط بين الحلم والحقيقة بل إلى اللبس بين عقله والجنون في نهاية الرواية.
وهناك الكثير من المفارقات بين عقلية الشخصيات الثانوية في النص من وجود من يؤمن بوجود قوى خارقة لتلك السيدة ومن لا يؤمن بذلك وبين التمدن الذي حدث عامة في قرية الكور وبين أن مازال من يعتقد في فُلْك النور ويخاف منها. والخلط بين القيم المجتمعية والأخلاق من عدمها من رشوة وتدبير مؤامرات.
هذه التقنية تعطي تلاحم لأجزاء النص ويتم استيعاب الدلالات في إعادة ربط أجزاء النص في علاقات جديدة يبنيها المتلقي فهذه الجزئيات تمثل وحدات قائمة بذاتها لكن عندما تكتمل القراءة تتجمع لدينا فكرة مكتملة عن النص.
وهناك محاولة لإشراك المتلقي في ملء فراغات النص وفهم الدلالات المكتوبة فقد أشارت الأبحاث عن ديناميكية النص الأدبي ونظام توزيع المادة الحكائية في الرواية أن المتلقي يظل يعطي أحكام على الشخصيات طوال القراءة ويرى أن القارئ يستدعي ذهنه مع تطور الأحداث وصراعها وتصارع الأحداث.
والمتلقي يجد أن النص يبدأ بأسرة دلالة عن أنها كنواة رمز لهذا المجتمع وهذه الأسرة وهذا البطل يمثلوا هذا المجتمع المضطرب الذي لديه مشاريع كثيرة مؤجلة وفيه صراع بين أفراده من اللذين يعيشون على تدبير المؤامرات وعلى الخرافات والجهل المتمثل في فُلْك النور وبين الصالحين اللذين يهتمون بالقيمة والأخلاق والمعرفة والتحضر ومقاومة ذلك الجهل متمثل في الأستاذ سعيد عبد الغفار. وما يتبع ذلك من وجود أزمة في الفكر المتحجر وعدم البحث عن تفسير منطقي للأحداث . هي ثنائية صراع التضاد بين التقدم والتخلف العلم والجهل الظلام والنور.
وللمفارقة النص أعطي وعي مزدوج وعي بذلك التخلف والجهل ووعي لذلك التقدم والعلم بما فيه من نور.
المبحث الثاني… الأنثروبولوجيا الثقافية والاجتماعية…
نحن أمام قضية الإنسان وعلاقته بالمجتمع حوله بل ومع الكون نظرته التي يصنعها واستغراقه في ملاحظة الماضي والحاضر وقدرته على الفعل إذا استطاع أن يفعل والعيش في عوالم وفق تطورات جديدة وعلم الأنثروبولوجيا هو علم الإنسان مصحوب ببعد زمني يلقى الضوء على التغيير الذي حدث لهذا المجتمع في هذه الفترة.
تقول مارجريت ميد “نحن نصف الخصائص الإنسانية البيولوجية والثقافية والاجتماعية للنوع البشري عبر الأزمان وفي سائر الأماكن ونحلل الصفات الثقافية والاجتماعية و البيولوجية المحلية كأنساق مترابطة ومتغيرة وذلك عن طريق نماذج ومناهج متطورة كما نهتم بوصف وتحليل النظم الاجتماعية”
على سبيل المثال رحلات ابن بطوطة تعتبر أنثربولوجيا وكذلك مقدمة ابن خلدون فيهما وصف مجتمعات وصفات خاصة.
في هذه الرواية نجد بشر ومجتمع ينتج ثقافة ما وتتراكم فيه وما يتبعها من نظم إدراكية ونظم طقسية واجتماعية واساطير وعادات وتقاليد وديانة ونظم اجتماعية وما بها من قوانين.
نرصد ذلك في أسرة أكرم سليمان وما فيها من ترابط ووقوف الأب بجوار ابنه في أزمته المتمثلة في مشكلة عمله وأمه التي تهدئ من روعه وتسانده وكذلك رصد لحالة الأب بعد خروجه على المعاش وفهم كل شخص فيهم لله وذلك في ص 12 و 13 و14. وعلى المقابل رصد أسرته هو وزوجته التي طلبت الطلاق لأسباب من الممكن أن تكون ليست قوية إلى حدا ما وله ابنة تعيش معها يراها كل أسبوع. نقرأ ص 69 و ص 99.
رصد مجتمعي لقرية الكور وهي مثال على قرى المجتمع ككل وما حدث فيها من تغيير كبير في العلاقات والعادات ووسائل المواصلات ونجد ذلك على مدار الرواية كلها ولا نجد صفحة إلا وبها رسم لصورة تلك البيئة وما بها من مميزات ومزايا ومساوئ.
محطة القطار وما بها من باعة و مسافرين ووصف مجتمعي خاص ص 16
الشارع وما به من مشاهدات ومظاهر القرية عموما نجده ص 33 و36 و37 و74. وما في القرية من مظاهر الأفراح قديمًا من فرقة الجوع الكافر وما صاحبها من أحداث وكيف كانت تقام الحفلات فوق مقطورة جرار ويقابلها الأفراح في الوقت الحالي وما بها من شجارات من الممكن تؤدي إلى جرحي بل إلى قتلى ص 73 و74.
الخرافات التي تصاحب بعض أهل القرى وما يصاحب ذلك من تسخير الجن و قوي خارقة غير حقيقية وذلك في الحديث عن فلك النور ص 69.
كيف يتم ذبح الطيور وسن السكين ص 120 والمقابر وما بها من مشاهدات ص 87. و المدرسة والأدوات المدرسية قديمًا وحديثًا وحال المدرسة ككل وذلك ص 63 وص 77.
كل ذلك أحدث خطوط واصلة للتفاعل بين النص الروائي كخيال مكتوب وتشكيل بنية النص وتكثيف الهوية الثقافية والاجتماعية والحضارية للفضاءات الجغرافية المتجسدة في متن الرواية وذلك فيما حدث من تغيرات لم تؤدي إلى تطور ذلك المجتمع ولكن حدث العكس وهو تأخر هذا المجتمع بل ورصد ظهور عادات وصفات لم تكن موجودة إلا نادراً وليس بهذا الشكل الكبير والواضح بل وتم هدم الكثير من القيم ومازال الجهل المتمثل في فُلْك النور موجود ومسيطر على الحالة الاجتماعية. نقرأ ص 108 “ما فعلوه هو نتاج ذلك العرق المتمرد… فكيف حدث التحول الغريب…… قبضة فُلْك النور”
ونقرأ ص 128 و 129 دلالة أن فلك النور هي الجهل وغلق العقل وليس نور.
النهاية موفقة لأن كل هذا الاضطراب لن يؤدي بالشخص إلي السكينة لكنه سيقذفه به إلى الجنون وقرأنا انه شخصية مضطربة فلم تتحمل شخصية بهذا العقل أن تظل في هذا الواقع فلذلك هرب إلى الجنون. وكذلك هي نهاية لها ربط مع بداية النص وما بها من ترابط بين الجنون الذي يتملك المجتمع لأنه لا يجد النور كمخرج له ففكر أكرم سليمان الذي لم يكن في بيئة صالحة وجد مكانه في مكان آخر.
في النهاية.. ان ذروة القلق لشخصية مسكونة بالأفكار المؤرقة تؤدي إلى انكسار الروح وذلك يؤدي إلى صرخة الجنون والكفر بذلك المجتمع المضطرب المريض الذي يفقد جماله وقيمه وتقاليده هذا النص يبحث عن الحقيقة والوصول إلى نتائج نستريح لها كلا من الكاتب والمتلقي نقرأ ذلك ص 88 و 89.
فالراكضون نحو المعرفة المتمثلة في النور لهم أحلامهم في التنوير والإبداع ولهم طريقتهم الخاصة في عرض ذلك وهذا النص الجميل له طريقته وحلمه الذي وصل بها إلى عقل وروح المتلقي.