رحلة المؤلف الضمني في متاهة ” أبناء الجبلاوي”

رحلة المؤلف الضمني في متاهة " أبناء الجبلاوي"
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

عندما يقدم لك روائي ما بنيةً روائية مركبة ، ثم يبالغ قليلاً في تعقيد هذا التركيب ، فهذا يعني أمرين اثنين ، الأول رفض هذا الروائي للسائد من الأشكال من جهة ، ورفضه التركيبة البنيوية للواقع من جهة ثانية ، ولهذا يقترح في بنائه الروائي ـ المقدم إليك ـ شكلاً جديداً للبناء الروائي ورؤية تغييرية في البنية الواقعية الاجتماعية . الأمر الثاني ـ المتعلق بلجوء الكاتب إلى البناء التركيبي المعقد ـ يعني محاولة الروائي استفزاز أفق التوقع عند المتلقي بحيث يشحذ قواه العقلية قدر ما يستطيع بغية تفكيك هذا العمل الروائي المركب ، وذلك من أجل إعادة موضعة الأحداث كرونولوجياً ، وترتيبها كي يستقيم الفهم ، وهذا يعني توجه العمل لقارئ نخبوي متحفز ، ومن هنا ستنشأ صعوبة التلقي عند القارئ العادي الذي يسعى خلف الحكاية وهو مستلق على أريكته .

وهنا يتبادر إلى الذهن سؤال مهم : ما الذي يدفع روائياً لبناء روايته بناء تركيبياً معقداً ؟ 

 أظن أن الدافع الأساس والذي يعد شرطاً جوهرياً لنجاح الرواية هو الكم المعرفي الضخم والرؤية الفكرية الجديدة والمغايرة . فهل حققت أبناء الجبلاوي هذا الشرط ؟

 لنعد إلى البنية الروائية قليلاً كي نعيد رسم هذا البناء الباذخ والمجهد في آن . ويجب ألا يغيب عن البال مطلقاً أن رواية أبناء الجبلاوي هي سيرة ذاتية لرواية . إذ البطل الأساس فيها هو رواية وليس شخصاً . وهذه الرواية كان قد كتبها روائي اسمه كاتب الكاشف على لسان بطلها كبرياء وهي رواية تنبؤية بالمطلق ، الحدث الأهم فيها هو اختفاء أعمال نجيب محفوظ فجأة من مصر وقد تستبدل الرواية في بعض صفحاتها كلمة ( أفكار ) بدلاً من أعمال . وفيها رصد لقصة حب مع فتاة غريبة الأطوار تدعى ” نجوى ” وكذلك تسبح الرواية مع تيمة البحث عن الأب حيث يعيش كبرياء أزمة كونه لقيطاً ، كذلك تتناول الرواية أسلوب السلطة الحاكمة في إدارة الأزمات من خلال بحثها عن أعمال نجيب محفوظ مظهرة ما في هذه الإدارة من قمع وتخلف وكذب وجهل بأسلوب الإدارة وهو الأسلوب ذاته الذي اتبعته السلطة الحاكمة في فيلم مدحت السباعي ” وقيدت ضد مجهول ” الذي اعتمد تيمة اختفاء الهرم بشكل مفاجئ . بموت نجوى الغريب أو انتحارها ـ على الأصح ـ وهي حامل بطفل من كبرياء تنتهي الرواية وينتهي معها المستوى الأول من البناء المركب ، ليبدأ المستوى الثاني إذ يتدخل ” قرين كبرياء ” ليستولي على سلطة السرد ليكشف بعض ما لم يقله كبرياء في المستوى الأول ولنجد أنفسنا أمام معلومات جديدة تضيء بعض جوانب شخصيات العمل ، هذا التدخل من قرين كبرياء استدعى تدخلاً آخر  من ” قرينة نجوى ” لتستلم دفة السرد وتكشف هذه الانفصامات المتعددة لشخصية نجوى حيث أبرزت لنا الأصوات الأربعة المتحكمة بنجوى والتي جعلت منها امرأة غريبة الأطوار . في المستوى الثالث في هذا التركيب الروائي تظهر شخصيات نجيب محفوظ وقد اكتست لحماً ودماً لتساهم بشكل أو بآخر  إن لم نقل في البحث عن أعمال ” الكبير ” فلنقل لتشارك الكاتب قلقه نتيجة تدهور المجتمع وفقدان أفكار محفوظ ، ونراها تقتاد ” كبرياء ” القادم من رواية كاتب الكاشف إلى قبو فسيح يجمع عوالم محفوظ وشخصياته جميعاً ، إنه المتحف المحفوظي الذي هبط إلى العالم السفلي وفي هذا القبو نلتقي بجميع شخصيات محفوظ بدءاً بالجبلاوي وانتهاءً بأصغر حرفوش  . ويتداخل المستوى الثالث مع المستوى الرابع حيث يستلم قرين كاتب الكاشف والذي يسمي نفسه ” شيطان كتابة ” السرد ويغدو بذلك كاتب الكاشف شخصية من شخصيات السيرة الروائية وهو كاتب محبط منعزل يعيش منفرداً في بيته لا نافذة له على العالم إلا من خلال النت وصديقته جيسيكا المصرية الكندية التي تعمل في مجال تصوير الأفلام الوثائقية والتي تلتقي صدفة ببطلة الرواية ” نجوى ” وهنا يكتمل المزج البنائي لتتداخل الشخصيات في الرواية الأم مع الشخصيات الواقعية ، مع الشخصيات المحفوظية التي تحرص حرصاً شديداً على شخصية ” كبرياء ” لترسله مع رادوبيس في  مهمة خاصة تلخص حالة الخلاص  و ينتهي به المطاف على أطراف واحة خضراء بعد أن قطع رحلة صحراوية شاقة جداً تمثل نوعاً من التطهر ، حيث يجد بانتظاره مجموعة من الفتيات العاريات ينظرن إليه من بين الأشجار  ، في حين يعود كاتب الكاشف لإنهاء روايته في الغرفة المنفردة ذاتها حيث يسمع ثانية الصرخة الجنسية الأولى التي كان قد سمعها في مستهل الرواية فتكتمل الدائرة بالتقاء نهايتها في بدايتها .

ولأن هذه المستويات  المركبة شكلت فيما بينها ما يشبه المتاهة  فإن القارئ سيجد نفسه أمام واحد من احتمالين لا ثالث لهما إما أن يرمي بالكتاب لأنه لم يرو عطشه،  أو سيلجأ إلى  الإمساك بخيط الضمان الذي سيخرجه من هذه المتاهة،  وخيط الضمان في أي رواية بالنسبة للقارئ هو تتبع مقاصد المؤلف الضمني الذي يحدده ” واين بوث ” بوصفه ” ذاتاً ثانية ” للمؤلف الفعلي والذي يشكل ذلك الحضور المضلل ولكنه الطاغي والمسؤول عن كل جانب من جوانب العمل وإليه تنسب ( القيم والمعتقدات التي تشكل أساس معنى عمل ما وتحدده جوهرياً ) القارئ في النص صـ21  وقد تبدى هذا الحضور الطاغي للمؤلف الضمني في أبناء الجبلاوي في اعتماد الرواية أساساً على راو عليم واحد ، وقد يتفاجأ البعض بهذا الحكم معترضاً بقوله أن الرواية تعتمد تعدد الأصوات وهنا تكمن اللعبة الذكية من المؤلف في أنه استطاع أن يوزع مهام الراوي العليم على عدد من الشخصيات فبدت بالاسم مختلفة ولكن في جوهرها تمثل جميعاً صوتاً واحداً  يجمع بينها بشكل كبير ذلك المستوى اللغوي الواحد أولاً وغيابها عن مسرح الأحداث ثانياً ـ باستثناء كبرياء ـ . نعود إلى خيط الضمان ولنبحث في التيمات الأساسية للعمل .

 في ” أبناء الجبلاوي ” ثمة انهيار اجتماعي وسياسي  شاملين،  فأفكار نجيب محفوظ ضاعت واختفت ، وفقد المصري خصوصيته، وحجبت طيور الظلام ( الطيور السوداء ) الشمس ، وامتلأت الشوارع بالعباءات السوداء ، وانقسم المجتمع إلى تيارين اثنين المحفوظيين والمحافظين  ، أمام هكذا ضياع كان لابد للرواية من أن تسير بتيمة أساسية تكاد تحكم العمل ككل، وتتحكم به أيضاً  فكانت تيمة البحث عن مرجعية تنقذ الدولة والمجتمع ، تبدت هذه المرجعية من خلال البحث عن الأب ولهذا رأينا أن كاتب الكاشف لقيط وكبرياء لقيط واستدعي اللقيط الأكبر عاشور  لتحافظ هذه التيمة على استمراريتها في صلب السيرة الروائية ، أما كيف تناول المؤلف هذه التيمة  ؟

فهذا ما سيظهر معنا أولاً : من خلال الأحداث، عبر متابعة كبرياء  وهو يتقصى سر أصله في محاولة محمومة لمعرفة أبيه.  وثانياً : من خلال تقنية الوصف ( الوقفة كما يسميها جينيت ) التي اعتمدها المؤلف كتقنية أساس في  البنية السردية ، والوصف لا يقتصر فقط على تبيان الصفات النفسية أو الشكلية إنما يتعداهما إلى وصف الأفكار ومناقشتها ، وهذا ما سمح للمؤلف الضمني أن يطرح رؤيته الفكرية التي تشكل حالة الأرق القصوى لهذه السيرة الروائية، فما شكل الأب الذي  يقترحه المؤلف الضمني بعد كل هذه المناقشات ؟

سنجد جانباً شبه متكامل لرؤية الكاتب في الصفحة 450 حيث يقول ( رفيق فهمي ربما كان عنيداً، لكنه ليس ديكتاتوراً، بالعكس كان ليبرالياً، بشكل ما . واقعي ، وصاحب نزوات، لكنه مهتم بالتفاصيل، وبالانشغال الإنساني بالابتكار. فكر كاتب في تلك اللحظة أن ابتكاره لشخصية رفيق فهمي، تبدو كأنها محاولة لصياغة نموذج الجد الذي تمنى أن ينتمي له . ) نعم فكر كاتب الكاشف بذلك لكن ما جاء على لسان رادوبيس  وهي تكسر الجبيرة المحيطة بذراع كبرياء، يكشف سبب الانهيار والضياع وفي الوقت نفسه يطرح الحل ( أنا محظية الملوك والنبلاء وكبار الكهنة والفنانين ، المرفهة في القصور والمخمل، أترك كل هذا لأحضر إلى عالمكم التعيس الذي تعيشون فيه بعد أن قطعتم كل صلتكم بنا متجهين إلى الصحراء ، بددتم كل شيء : العلم، المعرفة، الحكمة، الفلسفة، الطب، التحنيط ، وحتى قوة الأفكار، والفنون، اخترتم الصحراء فأصبحتم مثلها ، جفاف وعطش، ورمال تتيهون فيه وضلال كامل، ماشأني بكم ؟ بددتم حتى أفكار الرجل الذي أذاع صيتكم في العالم ) صـ414 . إضافة إلى ذلك فقد استطاع كبرياء أن يستنتج وهو على القارب برفقة رادوبيس أنها ستأخذه إلى حيث الحل مستهدياً بما كان قد طرحه محفوظ في ” ثرثرة فوق النيل ” عندما قاد مرتادي العوامة إلى الهرم في النهاية وهي ستفعل ( مثل محفوظ الذي وجه شخصيات الكثير من رواياته إلى مصر القديمة، الحضارة التي علمت العالم، ثم تجاهلها أبناؤها جميعاً فراحوا يتخبطون من خراب إلى دمار ) صـ440 .

وفي خضم هذه الوقفات الوصفية التي يطرح فيها الكاتب وجهة نظره النقدية في تحليل  بعض شخصيات محفوظ والتي يعارض فيها ـ دون تفصيل ـ  وجهات نظر النقاد الذين سبقوه ، وفي خضم  هذا الكم الهائل من أحكام القيمة التي تتذمر من تردي الأوضاع نتيجة التخلي عن الأصل الفرعوني وتبني قيم الصحراء،  تبرز التيمة الثانية في هذه السيرة الروائية والتي تتلخص في البحث عن نقاء الروح من خلال تقشير الجسد ، فقد تراكمت على الروح مجموعة من المفاهيم الصحراوية القامعة للجسد الأنثوي، جعلته يدخل في مرحلة من العماء والكبت والخوف ، سببت له حالة عطالة دائمة ، ولهذا نرى كبرياء يتعامل بحكمة بالغة وبصبر طويل مع جسد غريبة الأطوار نجوى إلى أن يتمكن من إزاحة ما تراكم عليه من طبقات كلسية أفقدته بريقه ولمعانه، مستهدياً بالصورة الأم عن المرأة المصرية  والتي جسدتها رادوبيس محفوظ كما يتحدث عنها الكاتب ( لكن رادوبيس من بين نساء محفوظ جميعاً كان لها ألق خاص كأنها امرأة تجمع بين جمال كليوباترا، و ذكائها ، وفتنة محظيات الفراعنة ، وحنان المرأة المصرية القديمة ، وغنجها ، ومعرفتها بفنون الجنس والغرام، كما وصفتها البرديات القديمة ) صـ439 . ومن بين هذه الصفات جميعاً توقفت هذه السيرة الروائية فقط عند الحرية الجنسية لدرجة يظن معها القارئ أنها الخطوة الأولى لإعادة بناء الحضارة، ولم يعد مفهوم الاستعراء رمزياً في الرواية بقدر ما أصبح  غاية لا تتجاوز دلالتها القريبة بدلاً من أن ينداح الرمز  ليشمل مراجعة الذات، وفرش الأخطاء، على الطاولة بشفافية، وقد تبدى ذلك عبر مفاصل الرواية جميعاً بدءاً بعلاقة كبرياء ونجوى وانتهاءً بعلاقة نجوى وجيسيكا ، مروراً بعلاقات كبرياء مع نساء محفوظ خاصة زينات وزينب دياب، وقد كان بإمكان الكاتب استغلال المشاهد التي تجمع جيسيكا مع نجوى أثناء تصوير الفلم لإبراز باقي مقومات المرأة المصرية لكنه خصص جميع المشاهد لصالح تيمة البحث عن الروح عبر تقشير الجسد .

يبقى السؤال الأهم والذي تطرقنا إليه في بداية هذه الدراسة والمتعلق بالشرط الدافع لبناء رواية مركبة، وأزعم هنا أن الرواية لم تفلح في تحقيق هذا الشرط ذلك أنها في المستوى المعرفي اكتفت بالتلميحات النقدية وبالتأكيد على أن نجيب محفوظ لم يكن واقعياً إنما صاحب فكر فلسفي  منقذ دون إيضاح هذا الفكر إلا عبر حوار قصير جاء في الصفحة 463 بين نجوى الواقعية  وكاتب الكاشف ويتحدث بصيغ تقريرية مباشرة عن علاقة الروح بالعقل وأيهما يقود الثاني والتي تخلص إلى نتيجة مفادها ( فقط دعي قلبك يقودك ) فالعقل مكبل بالكوابح والقيود وراضخ لكل الثوابت الاجتماعية والأخلاقية التي وضعها بشر لخدمة سلطات كهنوتية أو ملكية ، وعلى صعيد الرؤية الفكرية تعيد الرواية إنتاج ما كان  محفوظ قد أنتجه في الدعوة لالتماس الخلاص في الأس الحضاري الفرعوني ، وإن أضافت إليها شخصية رفيق فهمي بما تحمله من ليبرالية وتحرر ، هذا من جانب ومن جانب آخر تعمق أبناء الجبلاوي فكرة نجيب محفوظ المتعلقة بتحرر المرأة وقد جاءت الفكرة في معظم مفاصل الرواية على حامل الجنس لدرجة أن ” نجوى ” في حوارها مع كاتب تساءلت قائلة ” هل تقول أن الإباحية هي الحل ؟ لكنه يستسخف المفردة  ويؤكد عدم امتلاكه لرؤية واضحة فيقول ” ليس لدي ما أقوله، فقط دعي قلبك يقودك” .

ضمن هذه الرؤية يسجل إبراهيم فرغلي ـ بتصوري ، وقد أكون مخطئاً ـ افتراقاً واسعاً عن أسلوب نجيب محفوظ وهذا الافتراق لا يصب في خانة التجاوز بقدر ما يصب في خانة النكوص فنجيب محفوظ في أولاد حارتنا استطاع أن يقول كل شيء دون أن يصرح معتمداً على سيرورة الحدث ونوعيته من جهة وعلى رمزية الشخصيات ما ساعده على تفكيك موروث قلما نصادف كاتباً يتجرأ عليه ، فمنح بذلك أولاد حارتنا أجنحتها الأسطورية ، في حين جاءت أبناء الجبلاوي رغم بنائها الباذخ لتقول الأشياء بشكل مباشر وصريح باستثناء رمزية الصحراء وهي رمزية مفتوحة وليست مغلقة وقد تم تكريسها في العقود الأخيرة ضمن النسق الثقافي المعارض .  

عودة إلى الملف

مقالات من نفس القسم