***
سؤال وجواب
يجلس عاريا وسكران في الغرفة
في ليلة صيفية
يمرِّر نصلَ سكينةٍ تحت أظافره
مبتسمًا
شاردا في كلِّ تلك الرسائل التي وصلته
تقول له إن الطريقة التي يعيش بها
ويكتب عنها
هي التي جعلتهم يواصلون
بعدما بدا كلُّ شيء آخر
باعثا حقا على اليأس.
وضع النصل على المنضدة،
نقره بإصبعٍ
فراح يدور
في دائرة وضّاءة
تحت المصباح.
ومَن بحق الجحيم
ينقذني أنا؟
هكذا حدثته نفسه.
وإذ توقفت السكين عن الدوران
جاءته الإجابة:
أنت الذي سوف تنقذ نفسك.
ومبتسما لا يزال:
أ ـ أشعل سيجارة
ب ـ صبَّ كأسا آخر
ج ـ نقر السكينة فدارت
دورة أخرى
***
كلٌّ وشأنه في هذا العالم. كلٌّ عارٍ في حَيِّزٍ ما، ولو في حَيِّز ثيابه التي تستر عريه. كلٌّ جاء الدنيا وحيدا، وراحلٌ عنها وحيدا، وكلٌّ فيما بين المجيء والرحيل يتدرّب يوميّا على الوحدة إذ يغمض عينيه كلَّ ليلة على غابة أفكاره ورغباته وشروره ولعناته، وعلى نهر مصيره مجهول المنبع والمصب. فليس إذن من جديد في الإجابة التي يخلص إليها بوكوفسكي: “أنت الذي سوف تنقذ نفسك“.
بل وما من جديد في الاستهانة الأخيرة بالإجابة، فكلٌّ منا جرَّب ولو مرة أن ينقر السكينة لتدور حول نفسها كأنها كوكب أرضي ضئيل تائه في الفضاء. كلنا في هذه اللحظة أو غيرها نتلهّى بأي شيء عما تفرضه علينا هذه الإجابة من مسئولية أو تحتِّمه علينا من عمل.
***
يقرأ المرء هذه القصيدة فيود لو يقابلهم، أولئك الذين بعثوا الرسائل إلى بوكوفسكي. يقرأ المرء هذه القصيدة فيود لو يعرف أي نوع من البشر ذلك الذي يجد في حياة تشارلز بوكوفسكي بالذات خلاصا له.
بوكوفسكي صعلوك بالمعنى العربي القديم للكلمة، بوهيمي بمعنى الكلمة، عاش حياته كلها خارجا على المجتمع، لا يعنيه من المدن إلا حاناتها، ولا من الحياة برمتها إلا متعها، ولا يقدم للعالم من حوله إلا قصائده وكان للحق غزير الإنتاج تتوزع قصائده الكاملة اليوم على مجلدات عديدة.
وكما ترون. يكتب بوكوفسكي قصائد شديدة البساطة، لا يشغل نفسه بما يشغل الشعراء أنفسهم به، ويقيسون عليه نجاحهم أو حتى مجرد مساحة وجودهم كشعراء. لا أظننا نجد في هذه القصيدة صورة شعرية يمكن استخدامها في تعليم الفارق بين الاستعارة والكناية مثلا. إنما هو مشهد، لرجل عار في غرفة في ليلة صيفية.
جمال كثير من قصائد بوكوفسكي يأتي من معرفتنا بصدق وقائعها، من إحساسنا إذ نقرؤها أننا لا نقرأ عن شخصية مؤلَّفة، بل عن إنسان مثلنا، ولكن لديه من الشجاعة أن يقف في عرض الشارع دون أن يكون لديه ما يخفيه، وتبقى متعتنا نحن إذ نقرأ قصائده كمتعتنا إذ نشاهد العاصفة ولكن عبر شاشة، أو المطرَ ونحن آمنون من وراء شباك محكم الإغلاق.
لذلك، يود المرء لو يراهم، أولئك الذين وجدوا من الشجاعة أن يقتدوا ببوكوفسكي، وينفضوا عن أنفسهم ما أبدعته الحضارة الإنسانية من قيود، ويعيشوا غير مغللين إلا برغباتهم وحدها.
ذلك ربما هو الدافع العميق وراء إقبال المقبلين على كتابات بوكوفسكي، وهنري ميلر، ومن على غرارهما من صعاليك الأدب والفن في كل زمان. طبعا لدى هؤلاء جميعا بدرجات متفاوتة أفكار وجمال ولديهم كل ما يمنح للقارئ المتعة التي يبحث عنها متلقو الفنون. ولكن ثمة أيضا الفرصة في الإحساس بأن أمثالا لنا في الإنسانية فعلوها، وأن الفرصة سانحة لنا أيضا، للخروج من قفص الحضارة.