فابيان كاساس .. موسيقى في آخر العالم

فابيان كاساس .. موسيقى في آخر العالم
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

فابيان كاساس، صحفي وكاتب قصة قصيرة ومقال وروائي، يعيش في بيونس أيرس. صدرت قصائده الكاملة في عام 2010، وفي عام 2007 حصل على جائزة آنا سيجرز Anna Seghers  في الشعر من ألمانيا. ذلك كل ما يرد لـ فابيان كاساس من سيرة في موقع مجلة "ترجمة الشعر الحديث" تقدمةً لقصيدته موسيقى المترجمة إلى الإنجليزية بقلم أدريانا سكوبينو.

***

موسيقى

في الثمانين

تروح جدتي في النوم

على الأغنيات القديمة

من مذياعها الصغير

في غرفتها المعتمة

حيث يصبح الأثير

شيئا لا غنى عنه.

لا أستبعد هذه الأشياء

لا أستبعدها

أن تحدث لي أنا

في نهاية حياتي

حين لا يبقى من موسيقى

إلا التي خارج أنفسنا.

***

كان ملك عجوز قد قرر أن يقسِّم مملكته على بناته الثلاث، ليستريح من أعباء الحكم، ويقضي أيامه الأخيرة ضيفا كريما على قصور الحكم الثلاث لملكات مملكته الثلاث. نتكلم عن الملك لير، رمز الحماقة البشرية الخالد بقوة شعر وليم شكسبير.

لماذا جعله شكسبير شيخا عجوزا؟ لماذا شذَّ عن عرف بشري باتت له قوة النواميس الكونية، وهو أن الحكمة ملعب الشيوخ الذي لا يدخله غيرهم إلا طلبا للحكمة يمنحونها له مصفَّاة منقَّاة مصاغة في عبارات جزلة رنانة؟ لماذا جعل شكسبير الأحمق شيخا، جعله يبكي في العراء بؤسه وشقاءه بعدما تنكَّرت له ابنتاه اللتان قسم بينهما مملكته فبات يمشي في البرية وعلى رأسه تاج من الشوك؟ ولعلنا نتذكر أن صغرى بناته حرمت من نصيبها من مملكة أبيها لسبب يؤكد حماقة الأب.

كان الأب الملك قد قرر تقسيم مملكته بين بناته بناء على قدر حب كل واحدة له، قالت الكبرى إنها حبها له مثل زبد البحر، والوسطى قالت إن حبها له كعدد البشر، أما الصغرى فقالت إنها تحبه مثلما يحب شخص أباه. فغضب الملك من هذا القدر الزهيد من الحب وحرم ابنته الصغرى من نصيبها في مملكته.

الملك لير واحدة من مآسي شكسبير الكبرى، بل إن هناك من يعتبرها درة إنتاجه الدرامي كله. ولكنه بعض قليل بطبيعة الحال مقارنة مع جمهور هاملت الذي لا يضاهى.

ولكن المسرحية نفسها لا تعنينا، إلا بقدر ما يعنينا هذا السؤال: هل ثمة أي غرابة في تصرف الملك لير؟ هل ينبغي أن يزداد الإنسان بمرور العقود حكمة واتزانا وتغليبا للعقل على الهوى؟ أم أن علينا أن نفكر في طريقة أخرى نحترم بها كبارنا، كأن نحترم ماضيهم، وما قدموه لنا فيه، وكفى؟

الحقيقة أن بنات الملك الثلاث كن أكثر حكمة منه، أو أكثر قدرة على التفكير من أبيهن الشيخ. فالكبيرة والوسطى فهمتا أنهما أمام شخص اختل عقله، فمنحتاه ببساطة ما يريد. والصغرى، تصورت ـ ربما ـ أن ثمة اختبارا وأن طريقتها في إجابة السؤال هي الطريقة المثلى. (ولو أن شكسبير يحرص على تقديم هذه الابنة الصغرى، كوردليا، بوصفها البراءة التامة). الثلاث تصرفن بما يناسب أشخاصا تقودهم عقولهم لا أهواؤهم، ولعل الحكمة ليست شيئا آخر.

لماذا نفترض أن شخصا يفقد قوته، وقدرته على العمل، وقوة بصره، وقوة ذاكرته، لماذا نفترض أنه مع كل هذه الخسائر يزداد حكمة؟ ألا تخبرنا الطبيعة في كل لحظة أن النهايات لا تستثني من أحدٍ شيئا، ولا تنال من بعض الأشياء على حساب بعضها؟ هل يحدث أن نرى حصانا يهرم كل ما فيه إلا ذيله يبقى منتصبا شامخا مثيرا للإعجاب؟ هل نرى شجرة يموت جذعها وتبقى غصونها حية، أو تموت غصونها، ولكنها تبقى قادرة على منحنا ثمارها؟

لماذا نتصور أن يحتفظ الإنسان بعصارته كاملة إلى النهاية؟ شكسبير يعلمنا في الملك لير أن المرء قد لا يصل إلى نهاية العمر حاملا كل عقله معه؟ وفابيان كاسياس يعلمنا أن الموسيقى التي تعزفها قلوبنا بداخلنا لن تكون هي الموسيقى التصويرية في مشهد النهاية. ستنضب. الخيال الجامح سيهدأ، ويهدأ، حتى يصير ذكرى، والذكرى هي أول طريق النسيان، والعدم.

فابيانن كاساس، الشاعر القاص الروائي الصحفي يعرف أنه في النهاية لن يجد بداخله إلا بئرا جافة لا صحافة فيها ولا رواية ولا قصة ولا شعر ولا موسيقى. وعندئذ يصبح الأثير، الذي لا يد للمرء عليه، أو إليه، أمرا لا غنى عنه.

مقالات من نفس القسم