ذلك المفتاحَ الضائع إلى الحاضر

موقع الكتابة الثقافي
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

لم يسبق لنا أن قدمنا دبليو إس مِروِن هنا، وذلك ببساطة غير مقبول. وهو الشاعر والمترجم الذي نستطيع من شعره، ومن ترجماته، أن نضيف كثيراً من الجمال.

لدبليو إس مرون أكثر من خمسة عشر ديوانا، وعشرين كتابا مترجما. حصل على العديد من الجوائز الرفيعة مثل جائزة بولينجِن برايز، وجائزة روث لِيلي الشعرية، وزمالة أكاديمية الشعراء الأمريكيين وغيرها. ثم نُصِّب أميرا لشعراء الولايات المتحدة سنة 2010.

وبرغم هذا الاهتمام الكبير بالشعر، واهتمام الشعر به في المقابل، نقدم له اليوم قصيدة عنوانها "إلى القصة".

***

إلى القصة

حتى في هذه اللحظة

أفترض أنك تختبئين هناك

في وضح النهار

كدأبك دوما

مولية فقط أقل قدر من الاهتمام

أو غير مهتمة بالمرة

كأنك ذاتٌ انفصلت

فهي في بلد آخر

وزمان آخر

وحياة أخرى

كأنك أعلمُ من اللحظة

بينما اللحظةُ ثمة، مهملة

بما فيها من حادثات وأحداث

ترسل من على البعد إشارات أنت لا ترينها

بينما هي مارقة أمام ناظريك

ليمتنع عليك فيما بعد أن تتذكري

ذلك المفتاحَ الضائع

الذي به يُشرع الحاضر

وحياتُه غير القابلة للتكرار

ويُقضى عليك من ثم

أن تؤلفيه فيقبله العقل

 

وتقْدرِين برغم المصاعب

وتنهين ما دوَّنه شخص ما

أو لعلك تتذكرين إن أسعفتك الذاكرة

أو لعلك تبتدعين من نفس العناصر والأنفس المستقاة جميعا

من بلد آخر وزمن آخر وحياة أخرى

حكايةً أخرى

لم تكن قط

حقيقةَ ما يُحكى

كأنما كان حياة وأنفاسا لم تنتبه لها أنظارنا

وكأنما ليس لها في ذاتها أية قصة.

***

القصة إذن، كامنة في مكان ما، يحدد الكاتب إحداثياته على النحو التالي: هو بلد آخر، وزمن آخر، وحياة أخرى. القصة إذن ذات انفصلت واستقرت في ذلك المكان.

في كتاب حواري مطول وبالغ الإمتاع أجراه الناقد الراحل غالي شكري مع نجيب محفوظ، ونشرته الهيئة العامة للاستعلامات في زمن فوز محفوظ بنوبل، وصل بهما الحوار في فلسفة القص إلى مثل هذا، فقال نجيب محفوظ لغالي شكري محذرا بنبرة لا بد أن كل من قرأها قد سمعها فبقيت تتردد في أذنه بصوت نجيب محفوظ: إياك أن تقول إننا باعة أحلام.

ولكن هذه القصيدة توشك أن تقول إن كتَّاب القصة باعة أحلام، لا علاقة لها بهذا الواقع الذي نعيشه، فهم في النهاية يكتبون قصصا فقدت المفتاح إلى الحاضر، ولم يعد بوسعها إلا أن تؤلف تأليفا ما يمكن للعقل أن يقبله. نحن إذن نذهب بأرجلنا إلى حيث يخدعنا إدجار آلن بو وتشيخف، ونستمتع بأن يهزأ بعقولنا يوسف إدريس وابراهيم أصلان. ولا نثور على زملائهم من الروائيين الذين ملأوا الأرض قصصا، وفاقوا السحرة بكل تأكيد عددا.

ولكن الشاعر يقول “كأنما”. ويكررها في أكثر من موضع في القصيدة. إذن القصة لا تفعل ذلك بالضبط، لكنها تفعل شيئا كأنه ذلك. إذن نحن كالمخدوعين المستمتعين بالاستهزاء بعقولنا، والمشدوهين أمام حيل السحرة.

ولكن الشاعر يقول ما فيه حل كل ذلك.

 في القصيدة تظهر القصة غير مكترثة باللحظة الراهنة المارة أمام ناظريها محملة بالحوادث والحادثات، ونظرا لعدم اكتراثها، فإنها تصير تحت رحمة الذاكرة تسعفها أو تبخل عليها عند لحظة الكتابة، وعندئذ، وفيما ضاع المفتاح القادر على أن يشرع الحاضر  يُقضى عليك أيتها القصة أن تؤلفي هذا الحاضر بحيث تقبله العقول. وبرغم هذه المصاعب تقدرين أيتها القصة على أن تنهي “ما دوَّنه شخص ما”.

أخيرا تلوح نذر المصالحة بين الشاعر والقصة. فالقصة لا تضيف إلى العالم لغوا لا علاقة له به. القصة تنهي هذا الحاضر، تكمله، تتم ما بدأ شخص ما في تدوينه. شخص لا ينبغي أن نبحث عنه خارج الأرض، بل هو على الأرجح شخص يجتمع فيه الناس والأشياء والقصص واللوحات، كل هذه الأشياء التي تحفل بها أي لحظة تمر بنا، وهذا الشخص الذي يحتوينا ويحتوي كل شيء حولنا، يبقى منقوصا، يبقى في انتظار قصة قصيرة ربما تكون بحجم راحة اليد لو أن كاتبها هو كاواباتا. وبهذه القصة يكتمل. وتأتي من بعد قصة أخرى لتبث أنه كان لا يزال منقوصا، ولا يزال جائعا إلى الكمال.

قد تكون تلك اللقطة الذكية التي اهتدى إليها دبليو إس مروِن هي أكثر ما لفت نظرنا في القصيدة، لأنها في الحقيقة دفاع بارع عن الفن، الذي لا ينبغي لأحد أن يتصوره توشية للواقع أو حتى نقد له. بقدر ما ينبغي أن نفرح به في أول الأمر باعتباره أحدث منتِج لا للواقع بل للوجود، ثم نتعامل معه باعتباره جزءا من هذا الوجود لا اكتمال له إلا به، ثم ننظر إليه لنعتبره قطعة تحمل أرواحنا بعد أن نموت، لا لأننا كتاب وشعراء نستحق هذا النوع من الخلود الذي حرم منه بقية البشر، ولكن لأن كل فن هو نتاج لحظة ما كانت لتكتمل بدوننا سواء كنا فنانين أم متلقين.

والقصيدة أيضا دفاع بارع عن الحلم، عن التخييل، عن الإنسان الذي يخرج من عالم النوم وقد عرف عن عالم الصحو ما لم يعرفه وهو في وعيه المعتاد. هي دفاع عن كل تلك الكيانات اللينة، المراوغة، التي لا تكترث بالدفاع عن نفسها، مدركة ببساطة أن الطبيعة لم تتخلص من قوس قزح برغم أنها لم تجبره على أداء أي وظيفة، فما بالنا بالفن؟

 

 

مقالات من نفس القسم