تجليات المكان وأزمة الهُوية.. قراءة في “أزمة كاتبة عربية” لهيلانة الشيخ

هيلانة الشيخ
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

محمد عبدالله الخولي

الكتابة استدعاء وحضور وتجلٍّ، الكتابة استنطاق للعالم، إدراك للواقع عبر رؤية مبدعة الذات الكاتبة، ولا يتصور حدث/ موضوع دون أن يحل ذلك الموضوع في مكان ما. ومن هنا تتجلى الأزمة الحقيقية في النص، تتجلى فكرته.. المكان/ الوطن/ الهوية/ الغربة.. وكل هذه المعاني تنبثق من رحم المعاناة، التي تعانيها الكاتبة/ هيلانة الشيخ ، فلا نص دون معاناة حقيقية وتجربة جادة، فالنص الذي لا تدرك من ورائه معاناة وتحسها عبر آليات التمثيل النصي، هو نص غث، وكل تمثيلاته ركام من العلامات اللغوية لا فائدة منه،  إذ كل نص يتشكل وفق رؤية كاتبه، ومدى إدراكه للعالم، ومن ثم استنزال العالم وقولبته في قالب نصي، واللغة الشاعرة واعتمادها على الانحراف،  وتوسيع الهوة ما بين الدال والمدلول، إذ تتقافز المعاني على سطح الدوال، ومن ثم يرتبك القارئ وهو يقوم بعملية فك الشفرة النصية، فكان لزاما عليه أن يسكن بين سطور النص، ليستبطن معانيه الثواني، أن يعبر من بنية السطح النصي، ليصل إلى بنيته العميقة، ومن ثم يتكشف لنا المرتكز النصي وفكرته المحورية.

فالكتابة كما ذكرت – آنفا- استدعاء للعالم وفق رؤية الذات  بعد إدراكها العالم  من منظور إيديولوجي ، ومسلمات منطقية، وثقافة رسختها التجربة الواعية في اللاوعي المبدع للذات، وهنا يأتي دور المخيلة التي تكتمل بها صورة العالم في الذهن ثم تأتي مرحلة الكتابة/ التمثيل النصي للكاتب.

فالذات حينما تكتب تكتب نفسها، الذات تكتب وعيها وطريقة تفكيرها وكيفية الرؤية الذاتوية الخاصة بها، فالقارئ يقرأ العالم من خلال النص وفق رؤية مبدعه.

هيلانة الشيخ، تصدر لنا العالم اللا محسوس في صور متعدد بتعدد المكان/ الأمكنة، وكأن حالة الشتات التي تعانيها الكاتبة، شكلت صورة ذهنية اصطبغ بها العالم وهي تعيد قراءته، فأضحت سلطة الصورة الذهنية مهيمنة على الرؤية والذات، وهي تحاول استنزال العالم في تلك الأمكنة التي ذكرتها من الوطن العربي، بل هيمنت الصورة الذهنية وشكلت وعيا ذاتويا ، تعيد به الكاتبة استنطاق هذه الأماكن وفقا لسلطة الصورة الذهنية التي شكلتها التجربة الواعية للكاتبة.

ذاتية الرؤية تستدعي ومما لا شك فيه ” الأنا” الذات، ولكن هذه ” الأنا” وهي تعيد قراءة العالم تتسامى حتى تصل لدرجة ” الأنا العليا” أو ” الأنا المتسامي” التي جعلت من العالم العربي كله وطنا لها فهي لا تطمح في وطن بعينه ذي حدود جغرافية تقصر الوطن وتحبسه داخل تلك الحدود الحغرافية، بل تسامت الأنا، وثارت على الوعي القائم، وتطمح في ” وعي ممكن” وطن لا حدود له ولا جغرافية، بل وطن أكبر وأوسع تطمح له الذات.

وتظل الكاتبة وهي تحاول الوصول للوطن المرتسم في مخيلتها، والتي تطمح إليه، ولكن سرعان ما تتجلى الأزمة في النص مرة أخرى،” الغربة- المعاناة- الوطن بمفهومه الأشمل والأرحب”  تتجلى المعاناة متخذة من الجسد رمزا، تظهر عليه علامات الإعياء والتعب وتلك الندب التي توحي بقسوة المعاناة التي تعانيها الكاتبة في تغربها واغترابها.

بعد تبلور فكرة النص ووضوحها في ذهن المتلقي، تدخل به الكاتبة مرة أخرى غياهب النص، وطرقه الملتوية، لتخفي وطنها الذي تحلم به عبر سرد للألم وتجلياته في حياة الكاتبة/ وواقعها المعاش، لتبقى فكرة الوطن مقدسة بقية من محراب مهجور، بينما لا يتخلى الجسد الرمز عن طينيته وشهوته التي ربما تكون في ظاهرها ممارسة لما يتنافى مع الطبائع البشرية، ولكن تلك الطينية الشهوانية تحمل في طياتها أوجاعا وألما ومعاناة ونورانية ذاتية، وحلما إنسانيا، تخيم عليه ظلال الطين والشهوة، وكأن الكاتب تتتازعه السماء بنورانيتها في بحثه عن الوطن، وأرض بماديتها وقوانينها تحاول سحق هذا الحلم، الذي يظهر أحيانا على سطح النص، ولكنه سرعان ما يتخافى ويختفي في البنية العميقة للنص.

النص:

الكتابة منحتني الحيّز الذي فقدته بين فرشتي وعتبة داري.

 كلما قست المسافة بينهما كلما أدركت كم أنا  محجّمة، اليوم تجاوزت فلسطين التي أنزفها وأزفّها في مراسم العيد والحرب، أشعر بالانتماء إلى كل من يقرأ لي وأقرأ له.

ففي مصر لي قلبٌ ينبّض الحجر، وفي اليمن لي من الزبرجد عينان. أمتدّ من أقصى المغرب مفتونةً بجباله إلى أبعد بقعةٍ في العراق.

أنا فراتٌ ونجدٌ وعدن، أنا مكّة والحجاز وبرج العرب، دمشقيّةٌ قاهريّة جزائرية سودانيّة الهوى تونسيّة الجوى فلسطينية من لبنان…

وعندما أسترسل في القراءة أسافر من الأردن إلى ليبيا من دون جناحين لأحطّ في غابات شفشاون، ولا أكتمل في مورتانيا حتى أبلغ البحرين.

ولا أبرح مسقط حتى أستقيم في الإمارات… أنتم لا تعرفون عنّي غير ما أكتبه، لست نبيّةً ولا ملاكًا سقط بالخطأ من غيمةٍ على خليج العقبة عقابًا لكم! ولست خوريّةً خرجت مملحةً من بحرها الميّت بنصف قشورها الملوّنة؛ أنا بعضٌ من لحومكم ومن دمائكم أُمٌّ وأُمّة، عاشقةٌ وخائنة، هويّتي لغتي أقطف بها رؤوسكم وأبذرها في صدوركم وبين طبقاتكم لكَي أطبق بكم على قلبي فيستكين.

الفسق جزءٌ مني وأنا جزء من محرابٍ مهجور، أصلّي قيام الليل وأعربد تحت صنبور الماء، أخجل من تجاعيدي وندباتٍ لم تترك للقُبل متسعًا من الشغف، وأتبجّح بغشاءٍ لم ولن يُفض…. هو غشاء القلب.

لذا أفضّ المجالس بابتسامة لا تحتمل المعنى الحقيقي لنصٍ لم يكتب بعد.

فإن استجرح جلدي لا تقربوه ولا تلعقوه فنحن مجرد صورٍ وأسماء نتبادل الأمكنة ولا نلتقي، نضاجع أوجاعنا فنطرحها حجارة نتقاذف بها ونبكي على بعضنا.

 

مقالات من نفس القسم