أحـمد عبد الرحـيم
هذا فيلم تجارى هوليوودى، كله مغامرات وخدع بالكومبيوتر، مُنتَج بميزانية باهظة، ومُعد للعرض على جمهور الصيف.
لا..لا.. عذرًا. هذا ما يصلح للكتابة عن أضخم الأفلام التجارية لسنة 2007 مثل Spider-Man 3 أو الرجل العنكبوت 3، Transformers أو المتحوّلون، The Bourne Ultimatum أو إنذار بورن.
..ولكن هذه هى القضية، Death Proof أو ضد الموت (2007)، لكاتب السيناريو والمخرج الأمريكى كوينتن تارانتينو، ليس ذلك الفيلم الهوليوودى المعهود؛ إنه مصنوع ليكون شيئًا مختلفًا عنه، وربما مُلهِمًا له.
منذ سنوات، كتب الناقد البريطانى چوناثان لومز فى جريدة The Oxford Student قائلًا: “يشيع وسط الفنانين استعارتهم من مصادر متعددة، وتجويدهم لما استعاروه. كوينتن تارانتينو بنى تاريخه بالكامل على ذلك”. فى فيلمه الرعب / الأكشن “ضد الموت”، شملت مصادر تارانتينو أفلام Slasher أو السفاح؛ وهو نوع فرعى من سينما الرعب حقّق رغم رخصه وإغراقيته رواجًا قويًا فى السينما الأمريكية منذ السبعينيات، وتدور قصصه – للأبد – عن سفاح يقتل شبابًا حتى يُقتَل فى النهاية، كذلك أفلام Exploitation الأمريكية فى السبعينيات؛ وهى أفلام أنواعية ترفيهية، لكن صُنعت غالبًا بأقل الميزانيات وأدنى المواهب، وأخيرًا ما يوصف أحيانًا بأفلام Muscle Car (نوع من السيارات شديدة السرعة بدأ تصنيعها فى نهاية الأربعينيات) التى راجت فى سينما السبعينيات، خاصة أفلام الجريمة والأكشن التى تشارك السيارة السريعة فى بطولتها، وتلعب المطاردات عنصرًا أساسيًا فيها. أفلام هذه النوعيات تكتظ بمشاكل متنوعة، وإن لم تخلُ من نقاط مميزة. على أى حال، سعى تارانتينو إلى إحيائها، ليس بغرض توجيه التحية أو التكريم، بقدر إبداعها من جديد بطريقته. لكن هل يا ترى جاء المنتوج النهائى لذلك ناجحًا؟!
ماليًا، لا. وفنيًا، هو أمر صعب الحسم؛ ما دام هدفه كان تقليد بعض من أسوأ الأفلام فى التاريخ! لذلك، أظن أن هذا الفيلم قتل عددًا من النقاد جهدًا، ليدوروا حول أنفسهم سائلين فى حيرة: ماذا يمكن أن يكون جيّدًا وسط مادة عمدية السوء؟! ولكن.. دعنا نكن منصفين، ونحكم بمنتهى العدل.
الفيلم مقسَّم لنصفين. الأول عن مجموعة فتيات جميلات تافهات، يترصدهن رجل مختل يدعى “مايك” (أداء كيرت راسل) وهو بديل لنجوم السينما فى مشاهد الحركة الخطيرة، تقدمت سنه وراح زمانه، ويمتلك سيارة مصمَّمة لاحتمال أقوى الصدمات يسميها “ضد الموت”. وفى لحظة ما، صدمهن بسيارته، ليقتلهن جميعًا، ورغم انقلاب سيارته فإنه يخرج سليمًا، ويتم تبرئته من تهمة القتل لاحقًا. أما النصف الثانى فيدور بعدها بعام، حيث يترصد “مايك” مجموعة جديدة من الفتيات، أقل جمالًا وتفاهة، ويحاول قتلهن بسيارته، ولكن – هذه المرّة – هن اللائى ينتصرن عليه، ويقتلنه!
إذا استخدمت وسائل التقييم المألوفة؛ إذن فهذا فيلم بشع الملل، غبى السيناريو، متفاخر برداءته. إنه لا يحوى دراما، حيث تشاهد تقريبًا الفيلم نفسه مرتين، وصورته محمَّلة بخدوش وخطوط وبصمات عديدة فى شريطه الخام لا ضرورة لها، وأخطاء عمدية (كأن يظهر كوب خمر فى لقطة، ثم يختفى، ثم يعود للظهور)، وتحوُّل مفاجئ من الألوان إلى الأبيض والأسود، بالإضافة إلى حوارات يمكنها المنافسة على لقب “الأكثر عبثية فى تاريخ السينما”. إنه فيلم بلا معنى، بلا متعة، أو بالأحرى مجرد نزوة لمخرج غريب الأطوار أراد ضرب عدد من أفلامه المفضَّلة فى الخلّاط، التى يتصادف أنها من الأسوأ جودة، ليستمتع بمذاق هذا الكوكتيل وحده!
ولكن، إذا استخدمت وسائل تقييم أخرى، وعزمت أن تكون أكثر موضوعية، وعشت الفيلم كتجربة مختلفة؛ فقد تستوعب، وتقدِّر، وربما – لِمَ لا؟ – تستمتع بهذا الكوكتيل أنت أيضًا!
بادئ ذى بدء، لابد أن أحيِّى تارانتينو على فكرته المجرّدة لجمع عدد من الأنواع السينمائية معًا، وتقديم سماتهم الرديئة الشهيرة؛ كخدوش وأخطاء الصورة (التى سبَّبها فقر الإنتاج فى الأعمال الأصلية، والتعامل السيئ مع نسخها فى دور العرض)، مع كتابة حوار يعد الأطول، والأكثر وجودية، وسط أى حوار قد تكون سمعته فى فيلم سينمائى من قبل، ناهيك عن إفراد مساحة كبيرة لمطاردة سيارات ذات طابع واقعى قح. سواء كان ما أنتجه كل ذلك فى النهاية جيدًا أو سيئًا، فكرة الجمع بينهم كانت فى حد ذاتها مبدعة.
إن تارانتينو يقدِّس السينما التجارية الرخيصة، أو ما اعتدنا تسميته عندنا سينما الدرجة الثالثة، ويبدو أنه شاهد أطنانًا من شرائطها أيام كان يعمل فى شبابه فى محل لتأجير شرائط الفيديو، وكانت خطته هنا إحياءها، ببعض التعديلات، ليعطى جمهور 2007 عملًا مختلف المذاق؛ ففيلم الرعب المعتاد لك هذه الأيام لا يحوى مطاردة سيارات تمتد لثلث ساعة، أو حوارًا متخمًا بتفاصيل من قلب الحياة اليومية لشخصياته. وبخصوص الحوار، لابد أن أعترف باستمتاعى بحوار القسم الثانى. تارانتينو ككاتب تمكّن ببراعة من التقاط منطوق تلك العقلية الفارغة التى تنشغل بالتفكير فى الهراء المطلق، أو سفاسف الأمور، بل تمكّن من بيع بعض الدراما فيها أيضًا، كالتلميح إلى مؤدية مشاهد الحركة – إحدى بطلات النصف الثانى – كناجية من كل المخاطر التى تتعرّض لها؛ حيث ستنجو لاحقًا من محاولة قتل “مايك” لها، والمعلومة عن المسدس الخفى لفتاة أخرى؛ التى ستخدم الأحداث بعد قليل. حتى الحوار المقيت الغباء بين بطلات النصف الأول يمكن تفسيره قياسًا على معنى محتمل يمتلكه هذا الفيلم. نعم، صدق أو لا تصدق.. هذا الفيلم له معنى!
حسنًا، إن لدينا فريقين من الفتيات. الأول يشمل شابات عازبات، فاتنات، كسولات، مغرورات، غبيّات، لا يجدن ما يفعلنه. والثانى يضم شابات أقل جمالًا، أكثر نشاطًا وعمليّة، ذكيّات، شديدات العنف، منهن الأم، ومنهن الأقرب للعنف، ولديهن دائمًا خطة عما يردنه. ما أحببته أكثر كان تصميم شخصية السفاح “مايك” كدوبلير على المعاش لا يعرفه أحد، بلا حاضر مُشرِّف، وربما بلا ماضٍ مًشرِّف أيضًا، ومع ذلك يظن نفسه رائعًا، ومخيفًا، وضد الموت. إنه يلعب دور الوحش مع الفريق الأول، لكنه – فى الوقت نفسه – يُعد الضحية المثالية للفريق الثانى. وعليه، فإن هناك قصتى انتقام؛ الأولى عندما يمحو “مايك” ذلك الفريق الأول المستفز، والثانية عندما يمحو ذلك الفريق الثانى مايك ذاته. إن الكسل والغرور هما الوحش الفعلى فى هذا الفيلم، وكلاهما أُعدِم بشراسة فى النهاية. كما أن الفيلم قسَّم الناس لنوعين متباينين، يتماهيان وهوس تارانتينو بفن السينما؛ نوع “مُشاهِد” يعميه السطحى فى كل شىء، حتى فى نفسه (بطلات النصف الأول المنبهرات بجمالهن، ومايك المتباهى بسترته اللامعة). صحيح يرفس “مايك” فريق الجميلات بسهولة، لكن هذا ليس لكونه “بطلًا للفيلم” فهو معروض كمجرد بديل له، وإنما لمجرد تميزه عنهن بامتلاكه سيارة أقوى من سيارتهن. ونوع آخر “بطل للفيلم” قادر على النفاذ إلى ما هو أبعد من السطحى، وينعم بالذكاء والحنكة والشدة (بطلات النصف الثانى)، لذلك يستطيع إطفاء لمعان مايك الوهمى، وكشف كونه ظلًا للأبطال.
مطاردة الثلث ساعة فى النصف الثانى كانت ممتعة للغاية، خاصة عندما تُصمَّم على غرار مطاردات السيارات فى أفلام السبعينيات؛ حيث التصوير خارج الاستديوهات، مع سيارات سريعة من تصنيع ذلك العقد، وإيقاع يعطى للمطاردة شخصية تكاد تكون مستقلة، وإبتعاد تام عن النماذج المصغرة وBack Projections أو الخلفيات الزائفة المميّزة للمرحلة السابقة عليها، والخدع الكمبيوترية وCGI أو الصور المولَّدة حاسوبيًا المميّزة للمرحلة التالية لها؛ مما أكسب ذلك التتابع سمات خشونة وواقعية جعلته ذا مكانة وسط مطاردات أفلام 2007. شريط الصوت امتلأ بأغانى ومقطوعات موسيقية قديمة جاءت منتقاة، وأعطت للجو خصوصية، وأرهصت بالرعب أحيانًا. الأداء التمثيلى كان ذكيًا من الجميع؛ سواء من الفريق الأول المُخدَّر السخيف، أو الفريق الثانى الحيوى الظريف. أنا لا أرى أن كيرت راسل ممثلًا جيدًا، أو كما وصفه تارانتينو بأنه “بطل لكل جيلى”، ورغمًا عن ذلك فقد أدى شخصية “مايك” على نحو طيب وفَّر له الجنون الداخلى، والسحر الذى ولّى، والثقة الجبارة، والإشفاق الأليم على النفس فى النصف الأول، بينما أتقن هويته الحقيقية كفأر مذعور فى النصف الثانى.
يظل أهم ما فى الفيلم هو تعامل تارانتينو مع المادة الأقدم، من حيث تلاعبه بها، وإضافاته عليها. فى هذا السياق، دعنى أذكِّرك بفيلم أمريكى آخر مثل Down with Love أو فليسقط الحب (2003) للمخرج الأمريكى بيتون ريد، الذى قدّم تحية لأفلام Screwball Comedy أو كوميديا الحماقة، القائمة على فكرة Battle of the Sexes أو معركة الجنسين، لاسيما ما راج منها فترة السيتينيات؛ حيث بطل وبطلة، غالبًا من أداء روك هدسون ودوريس داى، يدخلان فى معركة يحاول كل منهما إثبات تفوق جنسه فيها، ويمثِّل البطل شخصية مغايرة لشخصيته على البطلة، ويدور الصراع كله حول هل ستنهزم البطلة جنسيًا، وترضخ لدخول فراشه فى النهاية، أم لا؟ “فليسقط الحب” كرَّر جميع النقاط المميزة فى هذه النوعية الفرعية من أفلام الكوميديا الرومانسية، إلى درجة اختياره ممثلين يشبهون شكلًا وأداء أشهر ممثليها، وإن أضاف لمسته الخاصة عندما سخر من بعض ملامحها، ثم قَلَب الأحداث فى النهاية، وفاجأنا أن البطلة كانت أكثر خبثًا من البطل هذه الجولة، وهى التى كانت تمثِّل عليه من البداية. “ضد الموت” لتارانتينو يفعل الشىء نفسه تقريبًا، مُعيدًا طرازًا قديمًا من الأفلام، ساخرًا من بعض ملامحه، مُمجدًا بطلة مغايرة أكثر نضجًا، ماحيًا كثيرًا من حماقتها، مما يعكس جيلًا جديدًا من النساء يؤكّد أنه ليس ألعوبة فى يد الرجال. فمثلًا، فى طاحونة أفلام Slasher، كل الفتيات بلهاوات عدا واحدة تنتصر على السفاح أخيرًا، إنما “ضد الموت” حوَّل هذه الفتاة إلى 4 فتيات، وجعل نصف فتيات الفيلم – فقط – بلهاوات. لذلك لم يكن غريبًا أن تجىء صورة القسم الثانى أفضل حالًا من صورة القسم الأول، وخالية تمامًا من الخدوش والبقع وغيرها من علامات الرداءة البصرية، باعتبار ذلك القسم بأكمله انقلابة على فيلم الرعب السبعينياتى / القسم الأول، خاصة حينما تهزم فتيات العقد الأول من القرن الحادى والعشرين وحش سبعينيات القرن العشرين؛ وكأننا عشنا فيلمًا قديمًا، ثم تكملته المعاصرة، فى تلميح إلى أن فتيات الحاضر صرن أكثر مكرًا وعنفًا، واكتسبن خبرة من مشاهدة الأفلام.
لكن لا شك فى أن “ضد الموت” يتجاوز “فليسقط الحب” متميزًا عما فعله بمراحل. ففضلًا عن تكراره لمادة قديمة، وعرضه لوجهة نظر جديدة، فقد أعاد أكثر من نوعية فى الوقت نفسه، واختار نوعيات توصَم عادة بالدنو، وتكاد تكون مجهولة بالنسبة للأغلب الأعم من الجمهور، وأضاف لمسته بشكل أعمق على فيلم الرعب / الأكشن؛ عبر إطالة الحوار، وإبطاء الإيقاع، واختصار العنف، واللعب بالصورة، وتقسيم البناء لجزءين، والسخرية من “وحش” الفيلم المخيف، مُحطمًا هيبته ومُخرِّبًا أسطورته!
بالنسبة للنقاط السلبية، فإن مشهد المطعم فى القسم الثانى صُوِّر على نحو مضجر، فاللقطة المشهدية التى تدور فيها الكاميرا 360 درجة حول البطلات بدون أى قطع، وهى لقطة مكرَّرة فى أغلب، إن لم يكن كل، أعمال تارانتينو مخرجًا؛ جاءت بطيئة جدًا، وأعلت صوت الملل فى حوار المشهد لدرجة الصياح. ولكن ما كان أكثر إملالًا هو ذلك المحيط من الإشارات المتعاقبة لأعمال فنية أقدم، وكلمة السباب الرئيسية فى العامية الأمريكية البادئة بحرف F، الذى أغرق الحوار عن بكرة أبيه! الطريقة التى ينجو بها “مايك” من المحاكمة كقاتل فى نهاية النصف الأول عانت من سذاجة شديدة (الفتيات كن مخمورات، وهو كان غير ثمل؟!)، حتى لو كان الأمر محاكاة للمستوى الردىء فى كتابة الأفلام / المصادر التى استعار منها تارانتينو؛ فهى لاتزال سذاجة شديدة! بينما يتعامل الفيلم مع ڤانيسا فرليتو – إحدى بطلات القسم الأول – على أنها ملكة جمال، بدت – فى الواقع – كمذئوبة! الدماء الغزيرة والأشلاء البشرية فى أى عمل تزعجنى إلى أقصى حد، ولا داعى لتأكيد أن هذا الفيلم يعانى منها. العنصر الجنسى، على قلّته، كان فجًا ورخيصًا. وأخيرًا، لم أفهم من هن الفتيات اللائى عرض الفيلم صورهن القديمة قبيل تترات النهاية بثوانٍ، لقد بحثت طويلًا عن إجابة ولم أجد!
“ضد الموت” ليس فيلمًا عظيمًا، أو يمتلك أشياء عظيمة، إن مثله مثل أفضل أفلام Slasher و Exploitationو Muscle Carعمل ممتع، وإن كان بطريقة غير معتادة. إن غرض تارانتينو لم يكن إعادة أفلام رديئة برداءتها، أو تقديمها لمجرد السخرية منها، وإنما لفت انتباهك لهذا الجزء شبه المنسى، إن لم يكن المُحتقّر، من تاريخ السينما الأمريكية، لإعادة اكتشافه، وتوقير جوانب فيه، مع صياغة هذه النوعيات على نحو أرقى يبدِّل قيمها الفنية المنخفضة بقيم أعلى، ويجعلها تنتمى إليه كصانع سينما له شخصيته، مبدعًا الجديد من القديم، والجيد من السيئ، والمنفرد من المبتذل، ومُقدمًا مذاقًا مُعارِضًا للأفلام التجارية المعاصرة قد ينعشها، ويلهمها، ويقلِّل من تقليديتها. الحق أن هذه هى عقيدة تارانتينو شبه الدائمة فى الارتقاء بالتجارى إلى الفنى، وتحويل الفسيخ إلى شربات. فقط تابع كل أعماله لتدرك ذلك بوضوح، وأتمنى أن تفعل هوليوود مثلك.
…………..
نُشرت فى مجلة أبيض وأسود / العدد 48 / ديسمبر 2015.