أسماء علاء
صوته حاد كالمذياع. تذكر مذياع جدتي وجدتك الذي سرعان ما بدله الأهالي بشاشات التلفزيون؟ لسببٍ ما صوته يُذكرها بانبعاث الصوت وتنقله في أرجاء المنزل بسبب مذياعٍ بعيد يملأ الدنيا رغم انزوائه في ركن لا يُعرج عليه كثيرًا. صوته يملأ الدنيا رغم شيء فيه لا تعرفه ولا تستطيع الاستدلال عليه، يفضِل الانزواء في ركنٍ باردٍ بعيد كالمذياع الذي لم يعد موجودًا.
أحيانًا يحدث أن تتشابك موجات صوتيهما فيبقيا معًا متقاربين حتى لو لم يكن بجانبها، لا يجمعهما شيء، لكن لا شيء يفرقهما أيضًا ولم تعد تحاول تفسير الأمر. صار يكفيها أنه حقيقة فقط، حقيقة تتجمل بها. وأحيانًا أخرى، تتنافر موجات صوتيهما، فيبحث صوتها عن مخرج لكنه أبدًا لا يجد واحدًا كأنه محجوز في زجاجة لا تسمح له بالعبور لكنها تسمح لصوته الجهور بالتجلجل في كل اتجاه.
في منزلهما أشياء رتباها بعناية. ستائر برتقالية لم تقبل بها لكنها تعجبه، ومنضدة خشبية يتقاسماها لأداء الأعمال، وكنبة قابلة للطي لأنها تزهد أحيانًا في الحب ليلًا، ومكتبة صغيرة تضع فيها كتبها فقط لأن لا كتب له، وملاعق خشبية وأطباق غير قابلة للكسر وأغراض هنا وهناك.
سارا في اتجاه المنزل أول مرة ممسكين بأيدي بعضهما البعض، وأحبا كل شيء فيه حتى الأشياء التي لم يخترها وفعلت هي والأشياء التي أحبها ولم تعجبها. كان المكان متجانسًا مع الوقت ومعهما وكل ما فيه سار إليهما وصارا من محبيه.
بعد أسبوع اختلفا على أمورٍ لا تذكرها لكثرة ما جابا في الخلاف ووجدته ينكر صوتها. حاولتْ البحث عن صوتها أمامه لكنها لم تجده، ولما وجدته كان قد مسح ما حدث بعد أن ملأ صوته الدنيا ثم غلبه الصمت. لكن ماذا عن صوتها هي؟ قبلتْ بعرضه وكسرته وراء زجاج وضعه بنفسه في زاوية من صالة بيتهما، زجاج يحجب الأصوات التي لا تعجبه.
كلما تنافر صوتهما تهب يداه إلى غرضٍ من الأغراض، تعدمه، تنفيه وتضع محله زجاجًا. كلما مضى الوقت كلما وجد مساحةً خالية في بيتهما، أغراض منقوصة، أرض عارية، مساحات كافية لنصب الزجاج ومنع الصوت.
ها هما مرة أخرى قبالة بعضهما البعض، من خلفهما ستائره العجيبة وأمامها هو وصوته، وأمامه همهمتها، لا الصوت ينبغي أن تقابله به ولا الصمت أيضًا. هل يوجد شيء غيرهما ليتواجها في ساحته، ليعبرا فوق تنافر صوتيهما؟ ظلتْ تغيب عن مجرى الخلاف لتسأل نفسها، وتسألتْ إن كان نفس الشيء قد عبر بخاطره. إن الحديث لا يجدي، وكلما حاولتْ، قطع عليها الطريق، وكلما طال صمتهما كلما باتت اضطراباتهما أحجار لن يكون في وسعهما تكسيرها مع الزمن.
تجد برودها أمامه لكنه ليس بحاجةٍ إليها ليكون نفسه. هو حاد الطباع وهي لا تحاول تغييره ولا تهتم بكسر شوكته، لكنه يتنافر مع رغبتها في تلجيم طباعها الحادة هي الأخرى ويتنكر لصوتها الهادئ. بل وتظنه أحيانًا يميل أكثر إلى الحدة كلما تفانت هي في البحث عن الهدوء. عادا في الغد للامتزاج والأيام تعبر بهما وبتموجات صوتيهما المختلفين، إما أن يتفاديا التنافر أو يقعا به.
تنظر إليه وهو ينفعل بلا سبب وبلا شجار لأنه يتحدث عن شيء ما يغضبه، تضحك ثم تفكر فيما قد تؤول إليه الأمور عندما يتنافر صوتهما مجددًا. لا تكسر جدار الصوت، إنه القناة الوحيدة التي أعبر منها إليك، أرادت أن تخبره، ولما فعلتْ عجز عن فهم ما تريد قوله.
هنالك شيء من التواصل بينهما مفقود، أو لم يكن موجوداً بالمرة، لكنها قررت أن تتحداه وربما هو أيضًا. هنالك حقائق لا يمكن تجاهلها ببساطة. لا يمكن فصل الغبار عن المنزل ولا يمكن أن تقطع قدمي الشمس إذا عرجت على النافذة. البشر يتشارعون ويحزنون ويؤذون بعضهم البعض وإن أحبوا، كيف يتنكر لذلك؟ ماذا ينوي فعله حيال ذلك؟
ذات يوم استيقظتْ فجأة بعد شجارٍ ليلي لتجده يغط في النوم بعد أن أفرغ محل طاولتهما ووضع المزيد من الزجاج. قلعته الزجاجية تستمر في التعالي، تخنق صوتها، تكفر بها وتتجاهلها وتتحاشاها. باب الخروج أمام عينيها مباشرةً ومن خلفها لم يعد لستائره العجيبة وجود.
يهرب؟ لكن إلى أين؟ هل هناك محل نذهب إليه بعيدًا عن أنفسنا؟ أم أنه يستطيع، يستطيع الابتعاد عنها فقط حتى لو كانت على بعد مترٍ واحد منه؟ كأنها أضحت عدوًا، كأن الأيام ذات وجهٍ واحد، كأن تقلب الأشياء تنكر غير مقبول من الزمن في رأيه، تنكر عاقبته أن يحرم صوتها من الوجود.
لا ينبغي للأصوات أن تضيع وراء الزجاج، لكنها توقن الآن أن صوتها سيظل حبيسًا كحشرةٍ في زجاجة مادمت قدماها تقفان على أرضهما. لقد أفرغ المنزل من كل شيء حتى يتسنى له رصف المزيد من الزجاج. أما هي، فتقف مكتوفة اليدين إما أن تكسر الزجاج أو تعبر من الباب. هل يسمع ما يجول بذهنها؟ إنه يدعي في كل مرة أنه يعرف ما تفكر به ويعرف ما لا تقول. وإن كان يفعل، فربما يدرك أنها قد منحته حق الاختيار قبل أن تنهزم وتُفلت يدها لتأخذ صوتها في زجاجةٍ وترحل.