بَابُ اللَّيْلِ

موقع الكتابة الثقافي uncategorized 22
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

البشير الأزمي

أحس بشيء داخلي يحتدم..

الفرح يُحَوِّمُ فوق هامتي وأنا أتطلع إليه آملاً أن أمسك بتلابيبه.. ينأى بعيداً كلما حاولت القبض عليه وينثر علي بعضاً من حزن ويغيب…

تعاودني صورة أبي كلما ضاقت منافذ الحياة في وجهي. يصلني صوته واثقاً وهو يحدثني: “اطرق باب الليل وانتظر، أعد الطَّرْقَ وانتظر.. افتح الباب واخرج.. الليل سبيل ومنفذ للهروب. ألم يُغَنِّ المطربون لليل؟ ألم ينشد الشعراء لليل؟ الليل مأوى نفرغ فيه آهاتِنا وأحزانَنا…”.

وخزتني كلماته. أرفع عيني وأحدق في وجهه؛ أبي الذي اكتسى وجهَه ذبولٌ فاتر. كلام أبي كحبل يلتف حول عنقي ويشنقني حتى أكاد أختنق، أحس بكلماته شواظاً من نار تعبر صدري وتستقر في القلب. طأطأتُ رأسي وهمست:” كلامك يلهب حزني وجراحي. “. غرس عينيه في وجهي.. حدق في بإمعان وكأنه يراني لأول مرة وبَدَّدَ بصره في السماء. قلت بل هو الليل يزداد ظلمة داخلي. تصلبت الابتسامة على وجهه، غدت كراية منكسة، تراجع إلى الوراء وقرفص. نظر إلي بعينين منطفئتين غائرتين في محجريهما، منيت نفسي أن يزهر الفرح في عينيه ولو مرة. نهض وترك أمي تمضغ الكلام، وبكاءٌ متهدج كطفل أكل الحزن ما تبقى له من فرح.

نهضتُ، حملت ألمي وأوجاعي. انسللتُ وأنا أغالب حزني وأحاول أن أكتم وجيب القلب والخوف الذي يشتعل في أوصالي.. ها هو الليل يرخي علي سدوله ليبتليني[1]

ألتحف رداء الليل، أدفع ضلفة الباب المتداعية وأخرج، أرفع رأسي إلى السماء وأصرخ.. يرد الصدى  عواءً يأتي من مكان قصي في القلب، يَخُزُّني فتستجيب له جميع أعضاء جسدي. أحاول أن أغالب ضعفي، أعجز وأستسلم لأحزاني وأنات أبي التي تصلني من بعد. صورته تضيء في مخيلتي، وأمي التي فر النوم من عينبها تلوك أدعية بصوت مبحوح.. تبكي وتدفن دموعها بين راحتي يديها..

تحضرني صورة أبي وهو يحكي أنه لا يتذكر من عائلته سوى أمه، وأن أباه مات قبل ازدياده. أمي لم تكن تعرف عن عائلته شيئاً يوم تقدم لخطبتها. ولم تكن تعلم يومها أين ولد ولا تعرف موطن أهله. أبي يحكي وتذمر أمي وحشرجتها يقطعان خيط حكيه، ينهرها. ويأمرها أن تكف عن النشيج . وَلِتَرْقِ تعب الهموم التي لحقتها ظلت صامتة للحظة، أطبقت بيدها على فمها كاتمة صرخة تجلجل في صدرها، نهضت ودخلت إلى غرفتها وهي محتدمة الملامح..

سمعتُ يوماً من أستاذنا أن عائلة ” بوينديا”، كما صورها أحد الكتاب[2] عاشت على مدى ستة أجيال تمتد لعشرة عقود من الزمن.. تعيش العائلة في قرية خيالية تدعى ” ماكوندو”. والزمن فيها لا يسير في خط مستقيم بل في خط دائري. فكلما تلاشت الأحداث من الذاكرة أعادها الكون لكن في شخصيات وأزمنة مختلفة.. عمر عائلتنا نحن توقف عنده الزمن، هذا إن كان قد بدأ يوماً. فنحن لا نعرف عن أصولها شيئاً. ” مقطوعون من شجرة ” كانت تردد أمي دائماً، عندما تبدأ نساء القرية يتحدثن عن جذورهن ورسم شجرة عائلاتهن. نحن لم نكن مقطوعين من شجرة لأن لا شجرة لنا نعرف جذورها وثمارها. قريتنا نحن، أيضاً، قرية خيالية، لا ماء فيها ولا كهرباء.. لا عمل ولا زراعة. سأربط، يوماً، خرقة حمراء على رأسي وأرحل، كما فعل ” خوسي أركاديو[i]” عندما رحل مع الغجر. نحن لا وجود للغجر في قريتنا. سكان قريتنا يعيشون ظروفاً أقسى مما عاشه الغجر الذي حطوا رحالهم ب” ماكوندو”.

“اطرق باب الليل وانتظر، أعد الطَّرْقَ وانتظر.. افتح الباب واخرج.. الليلُ سبيلٌ ومنفذٌ للهروب”.

اِقْتَنَصَني وابلٌ من الألم.. نما في داخلي ضيقٌ وتوتر.. خرجت مستتراً بالليل.. وهاجس يقتات خاطري. في الخارج سكونٌ وبرْدٌ لافحٌ ومطرٌ، رفعتُ رأسي إلى الأعلى وتركتُ قطراتِ المطر تبلِّلُ رأسي ووجهي وتمتزج بدموعي..

…………………

[1] – اقتباس من امرؤ القيس:” وليل كموج البحر أرخى سدوله *** علي بأنواع الهموم ليبتلي

[2] – غبرييل غرسيا ماركز في روايته مائة سنة من العزلة

[i] – خوسي أركيادو الابن؛ الذي عشق الغجرية وفر معها

مقالات من نفس القسم

موقع الكتابة الثقافي uncategorized 12
تراب الحكايات
عبد الرحمن أقريش

المجنون