هجرَةٌ بِمُحَاذَاةِ نهرِ

موقع الكتابة الثقافي
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

محمد عبده

    لم أجد انعكاس صورتي في المرآه، كأني تلاشيت. فقط أشعة الشمس، وبراويز معلّقة على الحائط امتثلت من خلفي أمام مرآةٍ مستطيلة مزينة بنقوشٍ ذهبية، أو هكذا بدت مع كل هذا الضوء الأصفر المتسرب إلى الغرفة. أكتشفتُ أنني متناهية في الصغر، بجناحين  مُشبعين بمزيجٍ من ألوانٍ عدة. يَطغَى عليهم الأحمر والأصفر، ثم طرتُ إلى أعلى؛ فأصبح انعكاس صورتي في المنتصف، وولّيت وجهي حيثُ الضوء ونفذتُ من شباك الغرفة.

        

      كان ذلك صبيحة اليوم التالي من ازدحام غرفتي بكثيرٍ من الزوار المنتحبين. لم أكن أشعر بجسدي، حينما حملّه أبي ليُمدده فوق الفراش. إخوتي غارقين من حولي في بكاءٍ أليم، وبقعةٌ حمراء أخذت في الاتساع فوق ملاءةِ الفراش البيضاء. كل شىءٍ أبيضٌ من حولي، وأصبحتُ أتذكر ما لم تقو ذاكرتي على اجترارهِ قبل اليوم. أشعر بثدي أمي في فمي الرقيق. بلاهتي وأنا أحاكي مواء قطتِنِا في الثالثةُ من عمري. ملمس شعيرات ذقنُ أبي وهو يهدهدني، ويلثمُ وجهي البض. ها هو الآن ينشجُ باكياً، ويمسكُ موسى حلاقته الملطخُ بالأحمرِ الداكن، وطبيبي يربتُ على كتفِه مرتعشًا. تجاوزتُ جسدي وقبّلت وجنتي أبي، لكن يبدو لي أنه لم يلتفت. عدتُ إلى جسدي فوق الفراش، وقد إمتلأ نصفه بدائرةٍ حمراء، بعد أن بدأ ينضبُ السائل الأحمر النافر من معصمي الأيمن. واستمر الطبيبُ بعينين زائغتين في فحصي إلى أن غطاني من أخمص القدم إلى أعلى الرأس، وتَسربت بعدها أمام عيني بقعٌ سوداء امتزجت باللون الأبيض المُحيط، وغرقتُ في سبات.

     في الصباح اعتزمتُ اقتفاء أثري قُبيل انتحاري في مشاهد غير مكتملة. عبرتُ محلّقة من شباك الغرفة إلى ماضيِّ السحيق. شعرتُ بزهو جسدي الجديد. فراشةٌ رقيقة لا تحتمل ثقل الحياة فوق روحها. هكذا كنت أشعر في داخلي، حينما كانت روحي في جسدٍ بشري. جسدُ أنثى. أما الآن وقد تحررت من كل قيد، فلابد أن أراني بعين أخرى غير تلك التي صُيرت عليها، أو التي لم أتحكم في صيرورتها.

      هبطتُ لأريح جناحِّي. إنه قيدٌ أخر. تَبسم لي رجلٌ خمسيني على المقهى. ارتشف قهوته، ونفخ دخان سيجارته في وجهي متأملاً. ارتخت ملامح وجهِه، وأتسعت إبتسامته. رأيت كم أنا جميلة في إنعكاس عينيه اللامعه. أبتسمت له، وهممت بالطيران أشعرُ بالإبتهاج.

    من فوق مدينتي شاهدتُ عوالم كثيرة؛ فانغمستُ في الذاكرة. نزلت إلى النهر الأزرق. الذي لم يتغير كثيرًا عمّا أتذكره. كنت أتردد عليه بعد دراستي حامله ألواني وأوراقي. أتأمل صفحاتِه الصافية، لتنقشع غيمات فوق رأسي؛ فتبدأ فُرشاتي في التمايل بألوانٍ زاهية. كانت تلك إحدى مراحلي الأولى في اكتشاف العالم من حولي، قبل أن تهوى سريعاً إلي نوباتِ ألمٍ وفزع.

    في مراحل لاحقة لم أكن أفعلُ شيئاً ذي بال سوى أنني أرسمُ، وبانقطاعاتٍ متتالية؛ مشاهد أليمة، تفزعِ عينِّي: رجل يقوده آخرون إلى المشنقة قُبيل نفاذ حكم إعدامِه بدقيقة واحده. كل ما عداه في اللوحة ضبابيٌ وغير واضح. لا معالم محددة تُذكر سوى عينيه الفَزعتيّن أعلى وجهِه، وقدميه المرتعشتين. تماماً مثلما كنتُ أشعر أنا حينها. كان الألم يتملكني، ويجثم فوق صدري كوحشٍ يطوّقُني، ويسلبُ إرادتي بالقوة. ما الذي يفعله إنسان حينما يعتريه دفقة مفاجئة من الوِحشةِ والألم يُصبح على إثرها العالم كله ساكناً من حولِه، وكأنه بغتةً وُجد في منتصف لوحةٍ صامتة رُغم كثرة تفاصيلها!. هكذا سقطتُ في بئرٍ سحيق. أصابت عتمته جنبات روحي وقلبي؛ فلم يعد ينفذ إليها أيةُ ضوء.

       شاربٌ كث، وعينان بنيتان أطلتا أمامي فوق الطاولة، أفقتُ من هذيان ذاكرتي، ثم عادت رأس صاحبها إلى الوراءِ قليلاً، وانتصب الجسد بعد إنحناءة، وجلس قُبالتي. هو رجلٌ في بداية عِقده الثالث. هندامه أنيق، وذو شعرٍ أشعث. يحمل كتباً ومجموعة أوراق، وضعها بحرصٍ شديد على المنضدة. أشعرُ أنه يخشى إخافتي، لكنّه أيضاً لم يتوانى عن إزعاجي بجلوسه هُنا .. أمام النهر. أسندَ ذقنِه إلي راحة يده، وشَخَصَ في عينِّي، وأرتسمت على وجهِه قسماتٌ حزينة. هل يقرأ ما يدورُ برأسي؟ أتُراه يسبرُ غَوري الآن، وسيكتشفُ أنني لستُ تلك الفًراشةِ الجميلة؟. بعد دقيقة ألتزم فيها كلانا الصمت بدء يتنهد بعمق ليُخرج أوراقِهِ. تنحيتُ جانباً كي أُسنح له فرصة قضاء عملِه، وأخذت أراقب طفلان تهدهدهما أمهما فوق قدميها. تلاعبهما بمرح، فبدّو جميعهم كلوحةٍ فنية رسمتها يدٌ عليا تُسر الناظرين وتبعثُ فيهم شعورٍ أصيل بالرحمةِ والسلام. شممتُ رائحة أمي، ومرت صورتها سريعا؛ فَطرتُ إلي الطفلين أداعبهما. يقهقهون عالياً على إثر رؤيتي، يتحسسون بإيديهم الصغيرة الفراغ الكامن بين مسافتينا محاولّين لمّسي، فأرفع جناحِّي في الهواء أمام أعينهم، فتتقهقر أيديهم إلي الوراء مذوهلان، ولا زالت الضحكة ترتسم على وجهيهما الملائكي. ينقلون الثلاث نظراتهم إلي بعضهم البعض، فتُتمتم لهما الأم مشيرة بإصبعها إلِّي، وهي لا تزال تحتضنهم “فراشةٌ جميلة”.

   أُقبلهم، وأبتسم لهم مُحلقة أعلاهم. أختلسُ النظر إلي الرجل الثلاثيني القابع في عُزلته، وأهبطُ حيث طارت إحدى أوراقِه؛ فأرى في غفلةٌ منه شيئاً مما كتبَهُ. فأجدني مذكورةً بين سطورِه. يكتُبّني أنا! طرْتُ خارج أسطرُ الورقة قبل أن يلتقتها، أو لعلّه كان يلتقتني.

     عدتُ إلى فراشي. جسدي الهزيل بدأ يتحدد في ذاكرتي الآن. ضمور شديد في ثنايا فتاةٍ لا زالت تحتفظ بجمالها رُغم شحوبِها. كان يُلاحقها شعورٌ عميق بالحزن، وفقدان الرغبة في كل شيء أستمر لمدة أشهر متتابعة. تذكرتُ تلك الحالة التي انتابتني. ثقلٌ شديد شَعُرت به روحي، وإندفاع شديد لإقتلاع جَذر الأسى. كانت لحظاتُ قصيرة، لكنها مرت بمشقة مريرة، وكأن الزمن قد توقف، وترك روحي عارية أمام كل هذا الشعور المميت بالألم. لم أجد مسوغاً واضحاً وراء كل هذا الحزن الرمادي، ولعل ذلك أشد ما أزعجني ورسب بداخلي سوءٍ على سوء. هّرولتُ حينها من الغرفة إلي الحمام، وأنا أشعرُ بفزعٍ شديد. أدرتُ صُنبور المياه عن آخرِه؛ فأنهمرتُ المياه، والصراخ يملأ أذنّي. غمرتُ وجهي بالدموعِ والمياه. ألعنُ حياتي التي لم أعرفها، ولا أعرفُ فيها من خفف وطأتها علِّي. هكذا بدا لي في هذه الدقائق على الأقل. بدأتُ أشعر بالغثيان، والبكاء سيلٌ جارف لا يوقفه شيئاً. التمعت في رأسي فكرة أن أنُهِي حياتي. هذا هو السبيل الوحيد لأتحرر مما لا أتحمله. تلألأ موسى الحلاقة في ركنٍ قصي وراء رؤيةٍ ضبابية خلّفتها مقلتا عيْناي بفعل الدمعِ الغزير. سحبته بأصابعٍ مرتعشة ونبضاتُ قلبٍ مدوية، وقطعتُ بالسرعةِ نَفسِها التي يباغتني فيها الألم هذا الشريان في المعصم الأيمن لأتلاشى كأني يوماً لم أكن.

****

        حلّقت روحُ الفتاة في جسدِ الفراشة. وسَكْنت الفراشةِ جسد الفتاة. وطوى الرجل الثلاثيني أوراقه، ومشى بمحاذاة النهر يشعرُ بخسارةٍ فادحة.    

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

كاتب مصري   

مقالات من نفس القسم

موقع الكتابة الثقافي uncategorized 12
تراب الحكايات
عبد الرحمن أقريش

المجنون