فصل من رواية “عصفورة الكَواليس”

أحمد غانم عبد الجليل
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

أحمد غانم عبد الجليل

 المطر يهطل بشراسة الصفعات المتوالية على وجهٍِ مستكين، ترقبه من خلف شباك البيت الريفي الأنيق، مأواها الأثير كلما واتتها رغبة بالهروب من كل شيء، ذات الجدران التي شهدت تعطش عمّار دون ارتواء، بمحض إرادته كي يظفر بها زوجةً لا عشيقة مبتذلة ضمن عشيقات جولاته التي تغيِّبه عنها لفترات أخذت تتطاول بعد احتلالٍ تهاوت تحت وقع عصفه قلعة حصينة بسرعةٍ مباغتة لتتحول إلى ركام ترامى فوق رؤوس أسراها.

 كادت توقن، بدل المرة مرات، إنها لن تراه مجددًا، وعليها أن تعتاد العيش معلقة بظروفٍ لا تعلم عنها شيئًا سوى ما يفضي به عن سكرٍ أو عصبية هوجاء لا تلوح لها نهاية، تخيفها منه حد الرعب قدر إشفاقها عليه وعلى مصيرها معه، رغم أن سقوط النظام أتاح له حرية لم يحلم بها من قبل، كما أخبرها بنفسه في فرحةٍ انفعالية، وكأنه أحد ضحايا الديكتاتورية التي تناقلت فظائعها مختلف وسائل الإعلام في كل مكان، حرية استمدت ثراءها من حسابات سرية موَزعة في العديد من المصارف الكبرى، غابت الرقابة عنها، عن قصد أو غير قصد؟ فتم الاتفاق على تقاسمها ضمن تصفيات التركة (المخفية) بين المسؤولين عنها.

 مساومات ومفاوضات وحروب مصالح يصعب عليها حتى تخيلها، وهو لم يقل الكثير، مجرد كلمات متقاطعة يصعب عليها لملمة أحاجيها الأقرب إلى الطلاسم، تبهت أمامها الكثير من الصور وتخفت الأخبار التي كانت قد تناقلت إلى مسامعها، منه أيضًا في الغالب، عن الحروب الباردة بين أحزاب المعارضة وطرق سيطرته على تحركاتها وضبطها في سياق متناغم يعزف له اللحن الذي يريد في النهاية، بينما كان زياد وشريكه من ضمن ضحاياها.

 بعد سفره لم تستطع أن تحل محله في شركته التي اجتهد بتأسيسها، رغم أن كل شيء كان مهيئًا لأجلها، كما وعدها عمّار، كان حزنها عليه أكبر من أي أمنية يمكن أن تداعب خيالها، أقوى من أي إغراء حاولت إقناع نفسها بأنه يمكن أن يعوضها عن كل خوف شهدته منذ كانت صغيرة، ومن رغبتها بإهمال كل صوتٍ يسكنها.

 أخبرت زوجها الثاني بأنها لا تريد أن تكون قطعة شطرنج، أو دمية بخيوط يحركها أنى شاء، ضحك وقال: “الجميع يحرِكون ويحرَكون، أما الباقون بلا حراك فيكتفون بالفرجة من بعيد وتنهد الحسرات”

 كانت تعلم إن كلامه يختزل جلَّ ما عاشت وعايشت على مدى عمر، لكنها لم تود أن تصغي لوسوسة تلك الأفكار طويلًا لئلا تزيدها تشتتًا، مكتفية بدور امرأت الرجل المتمرَس على تحريك المشهد برمته، فوجدت نفسها جزءًا منه دون اختيار منها، وإن وافقت على الارتباط به عن وعيٍ كامل، واقتناع بأنه خير سبيل أمامها لإنهاء مطاردة القط والفأر التي أنهكتها وما كان يمكن لها أن تستمر إلى ما لا نهاية.

 رنَّ الموبايل فلم تنتبه إلا بعد دقائق، نغماته المتكررة برتابة خالطت صوت الزخات العاتية في أذنيها، اقتحم إحداهما بقوةٍ باكية صوت والدتها في بغداد، تثقلها بفاجعة مقتل والدها، قليل الخروج من الدار منذ عقود، برصاصٍ عشوائي رشقه جندي أمريكي مذعور على المارة بعد اقتراب سيارة لم يراعِ سائقها المسافة التي يجب المحافظة عليها خلف الرتل الذي يركبه، تشوَش صوت النحيب في رأسها حتى ظنت لوهلة إنه من ضمن الهواجس التي تواتيها كلما جمدت أمام ما يبثه التلفاز من مآسٍ تفوق أغرب الكوابيس خيالًا.

 تحَجر الدمع في عينيها، ولم تجد قدرة على الصراخ، ولا حتى النوم، ولو كنوعٍ من الهروب، بعد تناولها عدة حبوب مهدِئة، كادت تتصل بنوال لتخبرها بمصاب مقتل رفيقها القديم الذي لم تره منذ عمر في شارعٍ من الشوارع التي مضوا بين جنباتها منادين بالعدالة (الأممية) الحالمة، ودت الارتماء في حضنها الدافئ الذي احتوى غربتها وكل غربة طريدة لأجيالٍ مختلفة، كما يتراءى لها دومًا، إلا أنها ألقت الهاتف على الكنبة بما تبقى من وعي، كما لو أنها تنبهت لتوها إلى فقدان المرأة التي اغتالها وجع الاغتراب من قبل أن تسقط قطرة دم واحدة في بلادهم، ومرجل الحرب يستمر في الغليان بانتظار لحظة الانفجار.   

 عبثت الابتسامة على نحوٍ مراوغ في قسمات وجهها الحزينة عندما رأته في جنازتها، كان ينشج كالطفل أمام جثمانها، قبل وبعد مواراته الثرى، مستعيدًا طيف والدته التي وافتها المنية وهو بعيد عنها، يتجدد داخله تأنيب نفسه على ترك محبيه يموتون دون أن يكون معهم في لحظاتهم الأخيرة، يبصر في خمول عيونهم نفس الانطفاء الذي شهده مرارًا، عند إصابته بالطلق الناري في باريس، وعند كل أزمة قلبية تشله عن الحراك وتوصله إلى العالم المجهول إلا قليلًا، ولمّا يستعيد وعيه ينتابه شعور غريب أن بعضًا منه قد عاد إلى الحياة بينما بقي البعض الآخر مفقودًا، تائهًا خارج حدود الزمان والمكان، لا يحسن السيطرة عليه تمامًا إلا بعد فترة، رويدًا رويدا، حالة عصية على التفسير أو الشرح، حاول تسطيرها ضمن نصٍ من نصوصه غير المكتملة، والمستمرة في التزايد، دون الوصول إلى ما يريد تجسيده، بذات تفاصيل تلك الأزمات الغريبة، كل مرة تختلف عن سابقتها، مهما بدت متشابهة.

 ظل جامدًا في مكانه، بعد رحيل الجميع، يحدِق في حفرةٍ رُدِمت لتوها، غابت عنها الأصوات الناحبة وما بقي سوى السكون، هيمَن على حواسه فاستسلم للصمت بالكامل، شأن كمال وأسامة قبل أن ينجح المقرَبون من الأصحاب في إقناع كلٍ منهما مبارحة المكان، بينما ظلت تنظر إليه من بعيد، يشدها الحزن المجدول بشوقٍ كبير للإقبال نحوه، ضمه قويًا إلى صدرها، إلا أنها اضطرت إلى ملازمة خولة المنهارة حزنًا على العمة والوالدة في آنٍ واحد، منذ أن تناوشت شبابها سنوات الغربة العابثة.

 مشَتْ إلى جانبها بتؤدة، تلتفت نحو جموده بين خطوة وأخرى والدمع يهطل من عينيها مدرارًا، على المتوفاة ونفسها أيضًا، على حالهما والنهاية الموحشة التى تنتظرها، بعيدًا عن بلادها ، وبمعزلٍ عن الذين يبقون على قيد الحياة من الأهل، والأقارب والأصحاب، عن شوارع جالتها حكايات نوال في عمرٍ سبق زمن الترحال الذي ظل يقلق نبضات قلبها حتى استسلمت لوجيب الحياة الأخير والحرب تقرع طبولها المفزعة بين الضلوع، أخبارها المتتابعة تنذر بشرر يمكن أن تسوق نيرانُه العراق إلى التهلكة، لا نظامه فحسب، وكل الأحلام التي منَّت نفسها بها على مدى عقود لن يكون لملامحها وجود في سوح الجنون المقبِل من كل فجٍ مظلم.

 شهقتْ هالة فرحة المصالحة وإنهاء القطيعة التي فرضتها عليها نوال إثر زواجها بعمّار، كان جلد كلماتها ونظراتها الغاضبة أقسى من كل ما لاقته خلال السنوات الراكضة في ثنايا الضباب.

 بكتْ أكثر مما فعلت لدى مغادرتها بغداد برفقة محمد، وهي لا تعرف إن كانت سترى والديها وشقيقيها ثانيةً أم لا، وكلمات نوال تتردد في أذنيها، قالت وكأنها تبصق في وجهها، إنها غبية ومتهورة، ولا تعرف كيف تتصرف… كما ظل موج التعنيف يتلاطم قويًا في مسامعها مهما حاولت التشاغل عنه: “يا مجنونة، أنا تزوجت رجل المبادئ الذي كان يلتهب حماسة فانتهيتُ إلى خيبة وخذلان، وأنت تتزوجين أحد رجال المهمات القذرة المعروفة لكل العراقيين في الخارج… أليس هذا نفسه الذي قلتِ إنه يطاردك مثل أي مهووس صاحب سلطة؟… يعني كنتِ تلتقين به من قبل أن تطَلقي؟… هو الذي حرَّضك ضد محمد، ولأجله أجهضتِ!…”

 وجدتّ في نظراتها ما لم ينجر لسانها إلى نطقه صراحةً، ودت أن تقسِم إنها ليست كما تظن، رفيقة فراشه، ولمّا أراد الاحتفاظ بها وحده أصر ألا يشاركه فيها زوجها أكثر من ذلك، فأمرها بتركه ونبذ كل ما يربطها به، هل ظنت أيضًا إن الجنين يمكن أن يكون من عمّار، ولهذا سارعت إلى الإجهاض؟

 أوَ يمكن أن يكون ذات الهاجس قد خطر لدى محمد لمّا علم بسرعة زواجها من عمّار، وخوفه من رجل المخابرات المهاب في الداخل والخارج أجبره على الصمت الذليل؟ مع أن أمرًا مثل هذا كان سيضعه في واجهة الصراع بين المعارضة والنظام الذي يرسل أعوانه ليتجسسوا على تفاصيل حياة الثائرين من أجل الحرية بلا أي رادع أخلاقي، وها هو أحدهم يستلب زوجة معارض يحارب الديكتاتورية لكسره في عقر داره.

 أملتْ ألا يستغل محمد هذا فعلًا في حملته الانتخابية للوصول إلى عضوية البرلمان في دورته الأولى، عندما رأته عبر التلفاز وهو يجلس بين صفوف المرشَحين لتمثيل حقوق الشعب في العهد الجديد. 

 بعد أن تركت خولة في شقتها، وقد اطمأنت عليها بعض الشيء، سارعت بالذهاب إلى شقة زياد في رغبةٍ جامحة لأن تكون معه، دون أن تسمح أن يصدها شيء عنه، فتح لها باب الشقة، ظلا ينظران إلى بعضهما لدقيقة أو دقائق، والدمع يتجدد في العيون، شرع الباب أكثر فدخلت مطأطئة الرأس كما لو أن مجلس عزاء نوال مقام في شقته، لا في مكان آخر، وكما حصل قبل نحو ثلاث سنوات، تمنَت أن يحتظنها قويًا ويسكنها أضلعه فور غلق الباب عليهما، هذه المرة كان جسدها أكثر توقًا إليه، وكأن الموت وهبه نشوة حياة غريبة، وعلى نحوٍ شديد الغموض لا تدرك له تفسيرًا محددا، ظل السكون يخيِّم بسُحبه الثقيلة حتى تمردت على صمته الموحش، كما لو أنه لا يراها.

قالت: جئت لأطمئن على حالك، قلقت عليك في الجنازة.

زياد: رحمها الله، ماتت حزنًا على بلاد تركتها منذ عمر بلا أمل في الرجوع.

ـ الأعمار بيد الله، كانت تصر على متابعة الأخبار كلما حاولت أنا وخولة إغلاق التلفزيون أو تغيير القناة.

 ارتمى على الكنبة، وجلست إلى جانبه، أحاطت وجهه بكفيها فالتفت نحوها، ثم قالت: أنت مرهَق، يجب أن ترتاح، لا أريد أن يزداد مصابي، أحتاج إليك كثيرًا، حتى وإن كنت لا تريد أن تراني وتتجنب الكلام معي كما حصل كلما وجدتني عند الخالة نوال، رحمها الله.

أحنت رأسها، وقد أدركتها غصة بكاء، ثم أردفت: وعندما أتصِل بك تغلق الخط دون أن تقول أي كلمة، أو لا ترد، لا تعرف ماذا فعل بي صدك بهذه الطريقة المهينة.

ـ ماذا تريدين أن أقول لزوجة عمّار دون غيره، تعرفين أن زوجك الهمام كان وراء خسارتي شركتي هنا؟ ما قصتي معك ومن تتزوجين، واحد ينوي قتلي والآخر، صمتَ ثم أردف: ما بيني وبينه مطاردة قد لا تنتهي حتى بعد سقوط نظام قائده الشجاع.

ـ أنا لم أود أبدًا أن أدخل دائرة الصراع الملعونة الدائرة بينكما، فلماذا تحَملني باستمرار ما لا شأن لي به، ماذا كنت تريدني أن أفعل بعد طلاقي من محمد؟ أبقى في شقتك حتى أدبِّر أموري التي لا أعلم كيف سأدبرها ولو بعد سنوات؟ أعود للعمل في مؤسسة كمال ياسين؟ أنت تعرف أنها غير بعيدة عن يد عمّار.

ـ لا تمثلي دور الفريسة المطاردة من كل الاتجاهات، كما أنك غير مطالَبة بتبرير شيء لي ولا لأي أحد.

ـ أنا لا أبرر، ولا أحتاج تعاطف أحد، لكني أريد أن أتكلم معك كما لو كنت أتكلم مع نفسي، سكتت ثم قالت متجاسرةً على ترددها: لو أنك لم تسافر، أو عرضتَ عليَ أن أذهب معك إلى أي مكان، ربما كانت ستتغير أمور كثيرة و…

قاطعها صارخًا: لو لو لو… كل حياتي تدور حول (لو) الملعونة هذه، وكالعادة أكون أنا المذنب دومًا، أنا الذي أضيع كل شيء من يدي، لكن لا، هذه المرة لن أسمح أن أكون شماعة أعذار لأيٍ كان، وكأني وعدتك وهربت.

ـ أنت لا تفهم أو لا تريد أن تفهم، أخبرتك أني أريد التكلم معك بحرية تامة، دون أن أفرض عليك أي شيء أو أحَمِّلك ذنبًا، كيف تكون كاتبًا مرهَف الحس وأنت لا تعرف ما أريد قوله حتى لو لم أنطق بكلمة.

ـ لا تقولي إنكِ تحبينني، وهذه المرة مستعدة لترك عمّار لأجلي؟ تريدين أن نكون مثل حبات مسبحة تدوِرينها في يدك كما تشائين؟

تنهدت، ثم قالت: كم احتملتُك من يوم أن تعرَفت عليك، لسانك الطويل يقذف الكلمات كالحجارة نحوي.

ـ ولساني الطويل جعلني دومًا في مرمى قصف من كل الجهات، حتى ونحن نستعد لتلَقي الضربات المهدِدة باقتلاع كل شيء، أبقى منعزلًا عن الجميع تقريبًا، أنا نفسي لا أعرف إن كنت أريد الحرب لأتخلص من كابوس رافقني عمرًا ودمر حياتي وحياة الملايين، أم أني أريد أن أهتف ضدها بعلو الصوت في المظاهرات والاجتماعات المندِدة بكل وَيلات الحرب المقبِلة نحو أهل بلدي، وأنشر المقالات المكذِبة لادعاءات وجود أسلحة الدمار الشامل، وأمريكا قبل غيرها تعرف أن الطاغية المنصور لو كان يمتلك عُشر ما يزعمون لمّا كفَ عن التباهي الأرعن، لكن عندئذٍ سأكون من أتباع النظام المتخَفين، أو ربما تتم فبرَكة قصة أن واحدًا مثل زوجك استطاع أن يتوصل معي إلى اتفاق مغرٍ لم أستطع رفضه، يقضي بنسيان كل ما حصل لي، والأهم دم والدي المُراق في قبو أو ساحة استعراضات، لا في جبهة من جبهات حرب القادسية المجيدة.

ـ ولهذا أنت منعزل عن الناس وتجلس في شقتك أكثر الوقت، كما قالت الخالة نوال، رحمها الله، والحسرة تاكلها عليك. 

ـ كانت تشعر بي وتفهمني من غير أن أتكلم، كانت تتعارك مع أمي كلما احتد تأنيبها لي، رحمهما الله، تركتني الواحدة بعد الأخرى، الدنيا مصرة أن أبقى وحيدًا، أعيش مع أشخاص لا وجود ملموس لهم.

 نظرت إلى عينيه في سؤال مرتاب إن كان يقصد زوجته السابقة أيضًا، وربما ما ذكر نوالًا ووالدته إلا لكي يتغزل بحبها وشدة هلعها عليه، دون نطق اسمها خجلًا من إعلان عمق حاجته إليها، في الماضي والحاضر وإلى ما لا نهاية.

اصطنعت ضحكة باهتة أطلت من وجهها الحزين، وقالت: حظك ألا تبقى غيري معك، إلى جوارك، حاضرة بروحها وجسدها، لا طيف تناجيه في خيالك، علا صوتها أكثر كأنها تخشى ألا يسمعها، وأحاطت كفها ذقنه لتصوِب وجهه نحوها وتلتقي نظراتهما دون إفلات: انظر إلي، أنا التي معك.

ـ أنتِ مخاتَلة أرسلَها لي القدر، مثل ضحكة مخادِعة لا معنى محدد لها، سرعان ما تختفي كما ومضت فجأة، استغرقه الصمت، ثم قال: أم أن زوجك هو الذي أرسلك لـ…

قاطعته قائلة في غضب: لأستعلم له عن أخبارك، أم لأسكِرك وأخدرك وأفتش بين أوراقك وفي الكمبيوتر عن أسرار الحرب وما سيحصل بعدها، خبَلك سيقتلك، حسب ما فهمت منك قبل قليل إنك لا تجد لنفسك مكانًا محددًا ضمن ما يحدث الآن، ولا في المستقبل ربما، كل شيء تغير وسيتغير كثيرًا، أكثر مما يمكن أن يتخيله عقل، إليس هذا كلامك أيضًا عندما كنت تزور الخالة نوال وتصر على تجاهلي كأني غير موجودة؟

 نهضتْ، وهمّت بالمغادرة، مغادرة الشقة وحياته، تود أن تقسَم ألا تسعى لمعاودة رؤيته مرة أخرى تحت أي ظرف ومهما هفَت أشواقها نحوه، إلا أن يده تعلقت بأصابع كفها قبل أن تخطو خطوة واحدة، فمنعها من الابتعاد عنه، نهض فتلامسَ الجسدان إلا قليلا، وبسرعة مغافلة بددَ ذلك القليل، احتضنها ومانعت، ممانعة غلبَ عليها الدلال، لكنها ما لبثت أن أولجت شفتيها في إيقاع شفتيه المتشَكيتين حرمانًا وشغفًا منسيا، في هذيان سكرات السنين المطارَدة، في أنات غربة طويلة لفظتها حسرات فقدان نورا، يعرف أنها ليست مثل أي امرأة ممن ومضنَ  من ثنايا طيف حبيبته التي تخشاها رغم بعدها عنه وانشغالها في حياة مستقرة بعيدة عن حياة التسكع المرصوفة بالخطر المستنزِف أنفاسه شيئًا فشيئًا نحو حتفه، يبصره يقترب منه إثر كل نجاة يحظى بها، تثقله بحزنٍ أكبر، توَجس أكبر وأكبر من مقبلات أقداره، انتهت به إلى الرفرفة في سمائها الحانية عند مغيب يوم ربيعي، نسيمه ليس كأي نسيمٍ شهده أيٌ منهما من قبل.

 تشاركا ذبالة الشهقات الأخيرة لدى سطوع نجمات ليلةٍ تتفلَت ساعاتها سريعًا من كف الزمن نحو الانهيار المعَربِد بكل شيء، كل حلم انتظره طويلُا وتمنى أن يحياه والده من خلاله، أن تتناثر أدمع فرحه كقطرات ندى في صبحٍ ناجاه طويلًا، مع كل دفقة حياة خاف ألا تتبعها أخرى.

 تمنَع دموعًا تلألأت في عينيها من النزول، دمع نشوة وفرحة ظفر أنها تتدثر أحضانه، هي لا واحدة أخرى، ليته يتأكد من ذلك أيضًا، ولو لبعض الوقت، بعض الحنين إلى كل ما افتقدتْ في دنياها، لن تخدع نفسها وتأمل مشاركته حياة كاملة بكافة تفاصيلها، ولن تسعى إلى استنطاق كلمة حب منه، تتمعن وتترنم بمدى صدق ونقاء أحرفها، لتترك ما بينهما بلا تسمية من جديد، بلا وصف، بلا تحليل وتأويل  يهويان بها إلى ما تهرَبت من وصمةِ إذلاله منذ أن تعرَفت على عمّار، مع أنها بين ذراعيه ليست امرأة مبتذَلة تخون زوجها، ليست مجرد عشيقة، ولا رفيقة فراش، ففي ذروة الشغف المحموم الذي جمَعهما كانت تتعرف إلى نفسها، وجودها الحقيقي بعد بعثرة غياب، بعد تشرد أجمل سنواتها في محن غربة ظنت إنها لن تعود منها أبدا. 

قالت: أشعر إن وجودي معك هو الحقيقة الوحيدة التي يجب أن نحياها معًا، وكل ما عشناه من قبل كان لا شيء غير عبث لا معنى له.

ـ الحقيقة إن العراق سيتم نحره أمام العالم من جديد، لكن ليس كأي مرة سابقة.

ـ لماذا تغيِّر الموضوع، ألا تريد أن تعترف أنك تحتاجني أكثر مما كنت تظن؟ لا تقل لي إن ما حصل نوع من الهروب من الواقع الذي لا تستطيع مجابهته، لا أقبل أن أكون مجرد إسقاط ضمن نص من نصوصك.

ضحك عاليًا وطويلًا، مثل سكران لا قدرة لديه على التحكم بانفعالاته، ثم قال: ليس لنصٍ في الدنيا يمكن أن يحتوي كل مصائبنا، رغباتنا وأحلامنا، خيباتنا وانكساراتنا، شقائنا، انتفاضات ولاداتنا وسكرات موتنا.

ـ تحاول أن تتجَنب رؤيتي ثانيةً؟ ربما أكثر من كل محاولاتك في الماضي؟

ـ وعمّار؟

ـ تخاف منه؟

قال باستنكار: لا أخافه ولا أخاف كل من معه وتحت أمرته، وأنتِ تعرفين، لكن هو زوجك الذي اخترته لتكوني معه، هل ستستطيعين الامتناع عنه، أم…

صمتَ مداريًا عينيه عن نظراتها.

ـ تريدني أن أتطلق لأكون لك وحدك، هل يمكن أن تنزوج، أم أني لا أصلح إلا كوسيلة هروب من واقعك المتأزم؟ أختبأت في جسدي فقط لتلهي نفسك، ولو لوقت شهوة محدود مهما طال، عن حمم الهلاك المقتربة من بلدنا.

ـ ماذا حصل لكِ؟ في لحظة انقلبتِ عليّ وصرت توَجهين التهم بما لم يخطر لي على بال أبدًا؟

قالت في انفعال يدافع عن عرِيها تحت بطانيته: أنا لا أرضى أن أكون مجرد كأس بيرة حصلتَ عليه في الوقت المناسب لتغيب عن الوعي.

صمتت والدمع يلمع في عينيها، ثم قالت في غيظ: اطمئن، لن أطلب منك شيئًا، ولا حتى كلمة لا تعنيها، لكن لا تعاملني كواحدة جلبتها من الشارع تنتظر منك نفحة زيادة على ما اتفقتما عليه.

ـ من أين تأتين بهذا الخبَل؟ أنا…

قاطعته في غيظ: كلكم هكذا، تحبون التنكر للحقيقة، أو إنكم تعملون على تزيينها كما شئتم، مثلكم مثل إعلامنا الموَجه، في أوقات الحروب خاصة، ضحكت وأردفت: أرأيت كيف أعدتك إلى واقعنا الذي هرَّبتك منه بلمسات عرفتْ كيف تروي حرمانك؟

ـ أنتِ سكرانة!

ـ سكرتُ بجنون أشواقك إليها.

ـ من؟

ـ أنت تعرف.

 ودت أن تقول أكثر من ذلك، إلا أن توتر نظراته أخضعها للصمت، فنهضت من الفراش وتركته وحده، لم ينتبه حتى إلى صفق باب الشقة ورائها، متكتمة على شوق كاد يعيدها إلى دفء قبلاته ثانية، كما لو أن جسدَ كلٍ منهما لم يتلفع شبَق الآخر لساعات.

 كادت في غفلة تشتت ذهني غريب أن تتجه نحو الشقة التي كانت تسكنها مع محمد في ذات العمارة، ثم أخذت تسارع الخطا لئلا تُربكها المفاجأة وتجعلها تتلعثم في البحث عن إجابة، حتى لو كانت غير مقنِعة، إن صادفته وسألتها عيناه قبل لسانه عما تفعل في المبنى الذي سَكناه سويةً وغادرته بمفردها، وقد ينشيه الظن إنها أتت لرؤيته رغم كل ما حدث بينهما، مع علمها أنه قد ترك الشقة هو الآخر، بالإضافة إلى أخبارٍ كثيرة تخصه، كان عمّار قد حدَثها عنها، سمعتها دون إبداء اهتمام إلا كونه أحد أقاربها في بلاد الغربة.

 مفارقة من المفارقات التي اعتادت نسجها في أفق الخيال بسخريةٍ تغالب لؤم واقع يكاد يفقدها صوابها في كثير من الأحيان، تسطَّر أقدارها منذ أن وطأت قدميها مدينة الضباب الذي يغشى كل شيء أمام عينيها وداخلها على نحو متفاقم، أو من قبل ذلك بأعوام كثيرة لا تقبل أن تتطوى في جعبة ذاكرتها، متمردة على الاختزال، فترجع إليها بتفاصيل مسهَبة تندس بين جنبات أحلامها في ليالٍ تأبى الانتهاء لديها.

 حصلت على الكثير من اقترانها برجل الأمن العاشق، كما لو أنها أولى وآخر نسائه، إلا أنه لم يستطع محو الحزن المنصهر في ملامحها، بل ربما على العكس من ذلك تمامًا، عكس ما تُظهره شخصيتها وتخدع به نفسها، حتى ذلك المتأوه الذي تركته عاريًا في فراشه، مثل فتى تفاجأ لتوه بفوران فحولته، ثم سرعان ما باغتته الرهبة من بعد ثورات انتشاء، لم يفطن إلى ذلك التموجُ الغريب الذي يسكنها وينَقلها بين انفعالات شتى تعبث بأيامها بلا أن ترسو إلى مستقَر، ولعله لم يشغل باله، ولو مرة واحدة، بمحاولة الولوج إلى خفايا أهوائها العاتية.

 سدَت الشارع أمام سيارتها مظاهرة تندِد بالحرب من جنسيات مختلفة، لا عراقيين فروا من جور النظام المهدَد بالانهيار فحسب، راحت تنظر إلى تغلغل النقمة في قسَمات الوجوه وتسمع صخب الحناجر، فيما ظلت ساكنة مكانها في جمود لا تدري ماذا تفعل، الدمع يحتشد في نظراتها مثل آلاف الأصوات الغاضبة، تجأر بسخط عقودٍ مضت، بينما يغور صوتها داخلها، يستسلم لخرَسه التام، كأنها فقدت قدرتها على النطق فجأة.

 دموع تعكس وهج اللافتات المكتوبة بأحمر قانٍ، يستبق الدم المُراق في كل مكان، في فترات الحرب وسِلم جبهات القتال على حدٍ سواء، تندب دمار بلدها وموت أهلها تحت أنقاض مدينةٍ تُنذَر للهلاك كل حين.

 كم توَسلت والدتها في مكالمات هاتفية تشهق العبرات أن يسافروا إلى الأردن، منذ أن أكد لها عمّار أن الحرب سوف تندلع لا محالة، لكن والدها ظل يعاند فكرة الهروب من ويلات الحرب بإصرار عصبي لم يواته مثله منذ عقود، ووالدتها لا تستطيع تركه وحده، فهو لا يعرف أن يتدبر أبسط الأمور، كما أنها لا يمكن أن تفكر بالنجاة بحياتها من دونه، وكأنها تعلن عن عشق الشابة التي كانت للمناضل الثوري صلب الإرادة من جديد، رغم كل ما عانت من حياتها معه، وكذلك شقيقها وشقيقتها فضلا البقاء، فلا فائدة من النجاة مع خطر فقدان كل شيء هناك.

 هناك الذي صار جد بعيد عنها، أكثر بكثير من أي بعدٍ انزوت في أفيائه وظلت تجول أرضه، غريبة وستبقى كذلك حتى لو وهبها هوَس الحروب فرصة الاستلقاء الأخير في أرض بلادها، عندها ستكون سنوات الرحيل قد احتوتها بالكامل، تلاشت أكثر من كل انصهارٍ يدركها وهي ترى وطنها على عتبات الضياع العابث بالأعمار ضمن مسرحية يُهيء العالم كله ديكور مشاهدها بعد عقود من العبث.

 عبث، عبث، عبث… عبث يتحَكم بكل تفاصيل الحياة ومن ثم المصائر، يقررها من قبل الولادة في بلدٍ من البلاد المدمنة انتظار “غودو ـ Godot” على مر الأزمان.

 تحدثت أدمعها نيابةً عنها: “غودو”، القائد العظيم، الإمام المنسَل من نفحات النبوة، الحاكم العادل، والفارس الشجاع، أو الحلم، وكم اختلطت رؤى الأحلام في هلوسة الأوهام، نتشرنق بها حتى نبدأ بنسج أوهام أُخر، أكثر تسلطًا وتشتتًا، تطوي كل أوهام الماضي ومن ثم تزيحها عن دروبنا الجديدة، فلا يبقى منها في أيامنا المقبلة إلا معروضات قديمة تتراكم في متحف الذكريات المهمَل، بقايا ومضات تطل من عوالم الحكايات المتوارَثة زمنًا تلو آخر، لكن “غودو” الزمن الجديد ينوي محق كل شيء، كل شيء.

 عادت إلى شقتها الفاخرة في منطقة “ماي فير” والليل أكثر وحشة بين أضلعها الواهنة، وكأنها تلقت كل بأس المتظاهرين الذين مرّت بهم في أوصالها المتنَسمة دفء جسده، كما لو أنه ما ابتعد عنها وما بعثر عناقهما الكلام المنتهي بريح ٍغضوب نأت بها عنه لتسارع في ارتداء ثياب الحداد المتهاوي كخمارٍ عن سِحر توقٍ ربما راح يختزن في صدرها منذ أول لقاء جمعهما.

 فتحتْ التلفاز وأخذت تتنقل بين الأخبار، وفي ذهنها تومض مشاهدهما الخاصة، يصِورها ذهنها من عدة زوايا، تحوطها من كل اتجاه، وتداخِل ما يظهر على الشاشة أمامها، عريّها بين ذراعيه يفرض نفسه على اجتماعات البيت الأبيض، مباحثات مجلس الأمن، وتحذيرات الدول التي لا تجد مصالحها مكانًا في أرض الحلم الأمريكي الجديد.

 توقعتْ أن يهاتفها، يقول أي شيء، وسوف تصغي متصومعةً بصمتها، دون النطق بكلمة يمكن أن تقتلعها من أطراف قلب هجست أنها وطأته بثقة رغم مكابرة ماضٍ عنيد يتسَلط عليه بكل عنفوان حبٍ قديم لا يرضى مبارحة نبضاته، رغم زواج مطلَقته وابتعادها عن اضطراب حياته للأبد، بينما ظل يقتنص الموت سنواته الطريدة، ودم والده يوالي النزيف في روحه حينًا بعد حين. ورغم ورغم ورغم…

 انسابت دموعها مدرارة من جديد، انتحبت، صرخت بعلو صوتها على كل وجه يطل عليها من الشاشة المتغيرة بسرعة تواتر التحضيرات الممهدة للاحتلال، بصقت عليهم جميعًا، تحمِّلهم مسؤولية كل ما شهدته في دنياها، كل حلمٍ واتاها ولم يجسر أن يستمر في عالمٍ اعتاد إجهاض الأحلام بجبروت غلب القسوة التي استملكتها لدى إجهاضٍ تلو الآخر، أقدمت عليه بحزم لا يقبل التراجع، لو خضعت واستكانت لصارت بعد ذلك زوجة عضو البرلمان الجديد، وربما من سكنة المنطقة الخضراء ـ القصر الرئاسي، حيث كانت تشعر بالرهبة كلما اقتربت السيارة التي تركبها منه، متمنية لو أن “الجسر المعلق” يستطيع تغيير مكانه، متواريًا عن عيون رجال الحرس المدجَجين بالسلاح والمبحلقين في السيارات وراكبيها، وكأنهم يوجهون إليهم اتهامًا لا تزول شبهته إلا بالابتعاد عن ذلك الطريق المرصود، ولم تدرك أن دربها سيبقى مرصودًا من قبَل أحد رجال الأمن الأشداء حتى نجح في إخضاعها لسلطانه، ولا تعرف لحد الآن كيف أن زواجهما لم يتسبب بوضعه في موقف حرج أمام رؤسائه، وهي ابنة المعتقل الشيوعي السابق ومطلَقة أحد رجال حزب معارض!

 أجابها ذات مرة ساخرًا: “القوانين والمحظورات تختلف كثيرًا ما أن نعبر حدود بلدنا إلى الخارج، خاصة في زمن الحصار، لا تشغلي بالك بمثل هذه التفاصيل، المهم أنكِ صرت لي…”، تومض لمعة حادة في عينيه عندما يؤكد لنفسه، قبل تأكيده لها، إنها من حقه بالكامل، أينما رغب بالذهاب أو السفر وإياها، كلما أرادها أن تكون معه، لوقتٍ ينهكها ويستنزف طاقتها، مع ذلك ساورها إحساس منعش بلذة النشوة الأولى وزياد يقبِل عليها في لهفة من أدرك مبتغاه بعد أن ظل يبحث عنه زمنًا طويلًا دون دراية منه، أنها فتاة عذراء لم يمسسها رجل قبله، فلم تود أن يتركها إلا كي  تتلفع بموجة عشق جديدة.

 كان لا بد من نهاية لإبحارٍ منفلت من نطاق المفروض عليهما، أولاها ظهره بعد إجهاد، كما لو أن الزمن رجع إلى الوراء، عندما راح يشيح بنظره عنها قدر المستطاع كلمَا رآها بعد عودته إلى لندن، وقد ضاقت عزلته عليه في البلد الخليجي، فلم يطق صبرًا على البعد عن مدينته البديلة، إلا أنه وجد نفسه محتجزًا بين صفوف المتفرجين، يبتلع الخرس آهاتهم المأزومة فلا يبقى لديهم سوى متابعة ما سيحصل بأسى يعتصر جروحهم المتقَرِحة منذ عهود اعتادت تبادل الاتهامات فيما بينها كي تظل المسؤولية تترامى من كتف إلى آخر حتى لا تجد من ترسخ فوق كاهله سوى من تاهوا في ثنايا الصمت طويلًا طويلا، وما كتاباته التي ظن إنها قادرة على فعل الكثير، بدليل كل محاولة قتلٍ تعرض لها، سوى إشارات تمتمة تتحرك بها الشفاه بدلًا من الكلام المشتَت في زوابع الريح كل أوان، تتساقط أحرفه تباعًا حتى يخيِم السكوت المثقَل بخيبات أحلام استنفدت أعمارًا ولم تبصر بصيص نور.

 دبَ نور الشمس بين السُحُب ولم تنم سوى غفوات تثقِل الجفون بوهنٍ تسلل إلى سائر جسدها، والسكون يجثم على أنفاسها قبالة التلفاز مكتوم الصوت، فيما يتطاير شرَر المَشاهد متواصلة التكرار نحو عينيها شبه المغمضتين.

 الهاتف يواصل سكوته، تأكدت إنه لن يتصل، وهي لن تفعل بالتأكيد وإلا بدت مثل أي فتاة ليل تعرض المزيد من خدماتها على زبونٍ كي تبقى المفضَلة لديه دون الأخريات، لعنتْ نفسها، عاودت البكاء، ولطمت خديْها بقوة، ثم تهاوى كفها فوق صدرها المنتفِض بالنشيج، والذي ركن إليه رأسه طويلًا.

 أخيرًا تعطف على أذنيها الموبايل برنة، الشاشة أظهرت (Unknown)، عرفت أن المتصل عمّار المسافر إلى حيث لا تعلم، ظن حشرجة صوتها نعاسَ استيقاظها من النوم فجأة، هو أيضًا كان صوته مضطربًا، عرفت أنه سكران، كعادته في الآونة الأخيرة، أخبرها ألا تغادر الشقة قدر الإمكان أو لتذهب وتقيم في البيت الريفي ولا تخرج إلا للضرورة، كان يخشى عليها أن تتعرض إلى غوغائية الانتقام على يد أحد أو بعض من تتبع خطاهم وخطط لاصطيادهم، تلبية لأوامر صارمة تصدر له من بغداد، مثل زياد!

 انتابها الرعب لدى ذكر اسمه دون سواه، وكأنه يمهِّد للحديث عن زيارتها (الغرامية) التي طالت لساعات، لكنه استعجل إغلاق الخط، فجأة راحت ضحكتها تعلو وتعلو ولا تجد لديها قدرة على التخفيف من حدتها التي اعتصرت حبالها الصوتية بشدة، كما لو كانت من ضمن المشاركين في المظاهرة التي استوقفت سيارتها ولم تغادر صياح الهتافات إلا مع مطلع الشمس مسترسلة الضياء، اقتحم جانبًا من الصالة، فاحتوى تمدد جسدها، إلا أعلى نهديها الظاهرين من الثوب مفتوح الأزرار ووجهها المستكين في الظل دون حراك، بينما الحركة تزداد بسرعة متواترة في الشاشة الكبيرة أمامها، تعرض مختلف الصور، منها صور بغداد المأخوذة عبر الأقمار الصناعية، نبدو أمامها كامرأة كسيرة، مقبِلة في استسلام على تنفيذ حكمٍ ظالم تم اتخاذه دون علمٍ منها، وبلا أن تدري شيئًا عن التهمة الموَجهة إليها، سوى أنها ظلت عبر كل الأزمان منقادة من أسرٍ إلى أسر. 

…………………….

كاتب عراقي

 

   

مقالات من نفس القسم

موقع الكتابة الثقافي uncategorized 12
تراب الحكايات
عبد الرحمن أقريش

المجنون