فصل من رواية “ورثة آل الشيخ” لـ أحمد القرملاوي

ورثة آل الشيخ
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

أحمد القرملاوي 

كان أكبر أعمامي مَن أخبرنا بنبوءة القرد حارس الكنز، الذي سيخضع ذات يوم لابنٍ من أبناء العائلة يُدعى «محمد»، وذلك حين سألناه عن سر تسميته كما جميع إخوانه الذكور السبعة بنفس الاسم: «محمد»، ويبدو أن سؤالنا قد أعاد لوجدانه سحر الأساطير، فظل يُعيد علينا حكاية القرد كلما سألناه، مُضيفًا تفصيلةً جديدة في كل مرة:

“كنز مدفون من أيام الشيخ، جدنا الكبير.. سبع زلعات من الفخار، مسدودة الأفواه بقشٍّ ذهبي، مملوءة حتى فمها بجنيهات الذهب.. يحرسها قردٌ أجرب منحول الشعر، حتى يكتشفها سابع المحمَّدات.”

كنا أبناء العائلة الذكور، نبيتُ قديمًا في بيت الجد في البلدة البعيدة خلال إجازة الصيف؛ صِبيَة وفتيان من أعمار شتى، أكبرنا يُدعى محمد، يكون عادةً مَن يفتح الموضوع. “أتظنه أنت؟”، أسأله عن بطل الحكاية قاهر القرد، فيقول: “الله أعلم”، فيما يلمع في عينَيه بريق الرغبة رغم الظلمة. وحتى لا يجنح الحديث بعيدًا عن الأسطورة، كنت أشرع في عدِّ ستة محمَّدات سبقوه في الميلاد، جاعِلًا منه محمد السابع، الموعود، في كل مرة.. يوليني ظهره مُحتضنًا بشارتَه، ويغطس سريعًا في النوم، بينما يتركني أنا لأشباح السقف المقشَّر، ولتلك الأسئلة التي تلدغني كما بَعوض البلدة؛ أظل أفكر: كم جيلًا سيمضي حتى نكتشف الكنز؟ وكيف يكون حين يظهر؟ خبيئة ذهب؟ أم دفينة فرعونية؟ لم نشك يومًا في وجوده، بل نصَّب كلٌّ منا نفسَه رسولًا يحمل الرسالة لمن لم تصِلْه بعد، أملًا في التعجيل بظهوره. وحتى حين كبرنا وصرنا نحمل براءات تصنيفنا بين العقلانيّين، من حَمَلة الشهادات الكبيرة، ظللنا نتوق لسماع الأسطورة من أفواه الآخرين، لا نُنكرها عَلنًا ولا نؤكدها إلا بابتسامة رضى تعكس يقيننا الذي لم يتحوَّل، حتى إذا ما اختلينا ببعضنا البعض ذات مساء، يُلقي أحدنا بذْرة الحكاية القديمة بأن يقول شيئًا من قبيل: “كانت أيام..”، فيظل الباقون يروُونها تباعًا حتى يبزغ الفجر، ثم نقوم عازمين على نقلها لأبنائنا الذكور، كلٌّ بطريقته؛ لا فرق بين طريقة وأخرى، طالما ستجري دماءٌ جديدة في جسد الأسطورة.

هكذا مضى بنا الحال، حتى عاد محمد، أكبر أبناء العمومة من جيل الأحفاد، وكان قد هاجر لأميركا قبل نحو عشرين سنة، فطلب لقاءنا في بيت أبي، وكنا جميعًا في استقباله حين وصل بسيارة فارهة مؤجَّرة. كان حميميًّا رغم ابتعاده طوال هذه المدة؛ يُشاكس أطفالًا لم يرهم من قبل، يُقبِّل رأس أمي- زوجة عمه- كأنما تركها بالأمس، يُعيد بأصابعه العارية قطعة لحمٍ وُضعَت عنوةً بداخل طبقه، يشير لأقرب فتاة كي تأتيه بشَربة ماء. مكث طويلًا يستحضر الذكريات، يجترُّ الطرائف القديمة، يسأل عن فلان وعلّان، من رحل، ومن لا يزال يتشبَّث بالأيام؛ يُعلِّق قائلًا: “ياه.. الله يرحمه”، أو: “ربنا يمسّيها بالخير.. مَن عنده رقم تليفونها؟”، أو يُلقي برأسه للخلف ويقول بابتسامةٍ باشَّة: “كان رجلًا سُكَّرة.. ليجمعنا الله به.” ثم فُتِحَت سيرة بيت الجد، بيت البلدة البعيدة، المهجور منذ سنوات لم نعُد نُحصيها، وبُرج الحمام الذي صار وكرًا للبومات والحيّات، فإذا بأبي يقول: “هناك مُشترٍ عارض شراء الأرض المقام عليها البيت، بكل مشتملاتها”، فانتبَه ابن عمي من سَكرة التذكُّر وسأل بذهول: “فعلًا تُفكرون في بيع البيت؟”

وجم الجميع لبرهة، كأن شخصًا مهيبًا دخل علينا بغتة، أو كأن حضورًا غيرَ مرئي قد مسَّنا جميعًا؛ حضور الجد الراحل ربما، أو بيت البلدة بأفاعيه ووطاويطه. سرعان ما عاد أبي يبث الدفء من جديد في أوصال الجلسة، بحسِّه المبحوح وبطريقته اللافتة في عرض القضايا.. قال لابن أخيه إن الحال تبدل تمامًا؛ لو عبَرنا بكَ الجسر مُغمض العينَين ونزعنا عنكَ العصابة عند مدخل البلدة، ستظن نفسك قد ضللتَ الطريق، لن تتعرَّف بيتًا واحدًا، لا شارعًا ولا مصطبة، كل البيوت تبدَّلت، نهضَت أعمدة الخرسانة عند حدود المصاطب، وامتدَّت ألسِنة الأسقف تلحس من الشارع لحسةً هنا ولحسة هناك، حتى تمدَّد الظل واختنق الهواء. أتذكُر الفُسحة المتاخمة لمنزل الشيخ محمود، حيث المصطبة الكبيرة؟ صارَت اليوم شارعًا ضيقًا يتلوّى بين البيوت، أبناء البلدة الذين تركتَهم أطفالًا يتغذّى الذباب من رحيق أعينهم، صاروا هم كبار البلدة.. لا كلمة لكبير تردعهم ولا مصلحة للناس تشغل بالهم. حديقة البيت صارت مرتعًا لدوابهم، أشجار المانجو هدفًا لنبالهم، تكسرَت نوافذ، واقتُلِع موتور المياه.. لا فائدة يا بني، مالُكَ الذي لا تقعد عليه سيؤول لغيرك شئتَ أم أبيت، وغيركَ هذا لا يرعى حقًّا ولا يحفظ خاطرًا.. لو لم نبعه، سيحتلّونه.

ساد الوجوم من جديد، وانقضَّت أفكار سوداء ترسم صورًا مُفزِعة، حتى قال ابن العم العائد من موطن هجرته: “يعني خلاص.. لن نكتشف الكنز؟”، قالها باعتيادية أدهشَت الجمْع، بحثتُ في وجهه عما يُشير للمزاح؛ كان جادًّا تمامًا، بل يبدو عليه الأسف. تبسَّم البعض، وتعجب أحدنا لكونه لا يزال يذكر أسطورة الكنز، فقال: “ومَن ينساها، هل أرعبتنا وأرَّقتنا حكاية مثلها؟!”، أومأنا موافقين، حتى أبي، تحمس لسؤال ابن أخيه عما بلغه من حكاية القرد حارس الكنز، فقصَّ علينا رواية عمنا الأكبر كما سمعناها قديمًا. أخيرًا قال أبي: “الفاتحة لروح أجدادكم”، وانهمك كلٌّ منا يقرأ الآيات ويغمس وجهه في برَكتها، ولم يعُد أبي لحديث بيع بيت البلدة بمثل هذه الجدية فيما بعد، كما لو أن أسطورة القرد التي استُعيدَت في تلك الليلة، كنادرةٍ تُثير الضحك قدر ما تُثير الدهشة، كانت ما أقنع أبي بإعادة النظر في أمر البيع، وإن لم يعترف بهذا قط.

 

مقالات من نفس القسم

موقع الكتابة الثقافي uncategorized 12
تراب الحكايات
عبد الرحمن أقريش

المجنون