محمد الفخراني
تلك الدقيقة الرائعة بين حصَّتَين في المَدْرَسة.
ربما هي دقيقة ونصف الدقيقة، أحيانًا أقلّ من دقيقة، أتوقَّع أنها لا تـُنْسى، هي فِعْلًا لا تُنْسى، الحالة التي نكون عليها خلال هذه الدقيقة، واحدة من أجمل الأوقات، استثنائية، ملأى بالحياة، فوضى حلوة وفرح لذيذ.
نسنتفذ طاقتنا في تلك الدقيقة النادرة المُدْهشة، نُطلِق جنوننا كله ونُحَرِّره، كأنها عُمْر كامل نريد أن نفعل فيه كل شيء، كأنها كل شيء ونريد أن نفعله في دقيقة.
لحَدّ الآن، وسيظَلّ، أحد أَفضَل الأصوات المُفَضَّلة لي صوت التلاميذ في المدرسة، خاصةً أصواتهم في الفاصل بين حصَّتْين.. بين الحصَص.
عندما أمُرُّ أمام مدرسة أتعمَّد التباطؤ، التمَهُّل، وأحيانًا أتوقَّف قليلًا، في انتظار أن يُصادِف انتهاء حصة وبداية فاصل، فأبقى بمكاني أنظر إلى نوافذ الفصول، أتفَرَّج على هذه الحياة وأستمع إليها وأعيش معها، هذه الفوضى الجميلة، وتلك الأرواح الحرة، واحدة من أغلى الدقائق عندي وأجملها.
هذه الحياة المُحتَفِيَة بالحياة، أرواح تتخبَّط في بعضها بعضًا فيتناثر منها نور وفرح، قِصَص الصداقة والخصام والانتقام والمصالحة والحب والنظرات الجريئة والخجلَى والوعود.
في هذه الدقيقة، دقيقتنا، يمكننا الالتفات والنَّظَر إلى وجه لا نجرؤ على النَّظَر إليه في الدقائق الأخرى، فقط يمكننا في هذه الدقيقة، يمكننا حتى أن نبتسم له، أو نرمي في حِجْره رسالة مطويَّة أو هدية، يمكننا فِعْلًا، في هذه الدقيقة مسموح بكل شيء، ليس في أيّ دقيقة قَبْلها ولا بعدها، هذه دقيقتنا الحُرَّة النادرة المُدْهِشَة المحبوبة.
ليس فينا مهزوم ولا منتصر، لا فائز ولا خاسر، نحن نعيش الحياة هنا، حياتنا الخاصة الرائعة في هذا الفاصل العبقري، نعيش بأقصى سرعة، بالطاقة القُصوَى لقلوبنا وأرواحنا وأجسادنا.. والكل يشارك بطريقته، حتى لو بَقَى جالسًا بمكانه مُؤدَّبًا عاقلًا، أو نِصْف عاقل، فهو يؤدي دوره في حالة الجنون المُدْهِش تلك ويُكملها.
الفاصل بين حصَّتَيْن هو مزيج من حفلة ولعبة ومعركة وقصة حب.
الضحكات والصرخات والكلمات والألفاظ الخاصة والخطوات المتسارعة والقفزات والأحضان والضربات المتبادلة، سنفعل كل شيء في هذا الفاصل، نَبْذل كل جهدنا ولا نُضَيِّع ثانية، لكننا أيضًا لا ننتهي ممّا نريد أن نفعله، وهذا يعجبنا، طيِّب.. سنُكمل في الفاصل القادم، لكننا من جديد لا نُكمِل ولا ننتهي، ونحن نعرف أننا لن ننتهي أبدًا، وهذا يعجبنا.
كل شيء مقبول بيننا، ونحبه، وسنُكمله فقط في فاصل جديد بين حصَّتَين، لا في الفسحة ولا بعد وقت المدرسة، هي حياة نعيشها دقيقة بعد دقيقة فقط بين الحصَص.
الحالة التي نكون فيها، وتكون فينا، الروح التي نعيشها وتعيشنا، لا أحد يمكنه أن يشاركنا هذه الدقيقة أو ينتزعها مِنّا، دقيقتنا، ولا أحد يستطيع.
ونعود إلى مقاعدنا نلهث ونَعْرق، وابتساماتنا ما تزال على وجوهنا، وملابسنا ما تزال مُهَلْهَلَة، أرواحنا وأجسادنا ساخنة، وقلوبنا ما تزال: بُم بُم بُم بُم، نلاحظ ربما بعض كدمات فينا، أو خدوش، فنبتسم لها (نشعر بحُرْقتها بعد قليل لا يُهِمّ، حُرْقة لذيذة)، نرى فينا أثَر عَضَّة أو كلمة أو نظرة أو ابتسامة أو ضحكة أو رسالة، ونخطف التفاتة أو نظرة سريعة إلى ذلك الوجه، كأننا نتأكد أن ما حصل لنا معه كان حقيقيًّا، أو التفاتة إلى وجوه أخرى لنؤكد لبعضنا بعضًا أننا سنُكمل حياتنا الاستثنائية في الفاصل القادم، نجلس وما زال كل شيء عالق بنا، ويظَلُّ عالقًا معنا لثوانٍ، وما زالت أرواحنا متشابكة في الهواء، تتواعَد على لقاء قريب وتنزل كل روح إلى صاحبها وصاحبتها بسرعة بسرعة.
سيحزن العالم كثيرًا ويخسر كثيرًا لو اختفت هذه الدقائق، هناك أوقات، دقائق، لا يمكن ولا يَصِحّ للعالم أن يخسرها، ولا أن نخسرها، لأننا عندما نخسرها فإننا بالفعل نخسرها.
يظلُّ العالم بخير طالما فيه هذه الحيوات الاستثنائية، مثل هذه الدقائق، طالما فيه فاصل بين حصَّتَين.. بين الحصَص.
فقط.. دقيقة بين حصَّتَيْن.