سمكة القرش: شابة ثلاثينية للأبد

محمد الفخراني
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

محمد الفخراني

كأنها تبحث عن قصة حب.

 هى فِعْلاً تبحث عن قصة حبها.. حب حياتها.

تُشبِه/ كأنها شابة فى منتصف الثلاثينات، مُستقلَّة عملية جادة، دون تَجَهُّم أو مُبالَغة أو ادِّعاء.

القِرْش.. ليست استعراضية، جسمها رشيق عملى، بسيط وانسيابى، بما يناسب شابة مُستقلَّة، تَمضى فى حياتها بجديَّة وانسيابية معًا، هى الشابة تسبح/ تمشى لمسافات طويلة وتحتاج انسيابيتها.

عندما نستدعى وحشًا بحريًّا، نفكر فورًا فيها، سمكة القرش، رغم أن واحدًا من أجمل المناظر وألطفها، ويقترب أن يكون رومانسيًّا، أو هو فِعْلًا رومانسى، عندما نرى غواصًا يسبح بجوار سمكة القرش، على مسافة قريبة جدًا منها، ويلمسها، نراهما معًا فى لقطة كبيرة صافية فى عمق البحر، كأن ليس فى البحر غيرهما، نرى كم هو منظر جميل وحُلمى ورومانسى، حتى أن القرش السمكة لا تُمانع أن يقترب منها الغوَّاص لهذه الدرجة، لا تُمانع أن يلمسها، تبدو بسيطة وسهلة، فقط على الغوَّاض ألا يَتبجَّح أو يتجاوز حدوده، هذا ما ترغب فيه كل شابة مستقلة حرة، ألا يتجاوز أحد معها ولا يتبجَّح.

 القرش.. تحب أن تحافظ على حدودها الشخصية، ومساحتها الخاصة، وتبدو كما لو أن بها تَوَحُّد لطيف يُؤكِّد مساحتها الشخصية.

نراها تسبح فى عمق البحر، وكل ما يَخْطر ببالنا وقتها أنها تبحث عن فريسة، لكن لو دَقَّقْنا النَّظَر، حتى أنها لا تحتاج إلى تدقيق، لو محونا من أدمغتنا تراثنا الكلاسيكى عنها، لرأينا أنها تبحث عن قصة حب، هذا واضح، فقط هى لا تُفصِح عن سِرِّها، تَكتمه فى قلبها، هى تُجَمِّد هذا القلب، فنشعر كأنه قطعة من جليد، لأن القرش تريد لقلبها أن يحترق مرة واحدة، تحتفظ به لأجل حب واحد، تُجمِّد هذا القلب، قلبها، وبداخله سِرّ النار، وسِرّ الكَسْر، تريد له أن يتكسَّر مرة واحدة بضربة واحدة.

من كلاسيكياتنا، تراثنا، عن القرش أنها مهووسة بالدم، وكأنها الكائن الوحيد فى العالم الذى تَستفِّزه رائحة الدم، كأن البشر أنفسهم لا يستفزّهم الدم برائحته ولونه، لكل كائن فى العالم رائحة تستفزِّه بشكل خاص، على الأقل تحتاج القرش أن ينزف كائن ما، فتَشُمُّ هى دمه وتُستَفزّ، هناك كائنات لا تحتاج لينزف الكائن الآخر، مُجرَّد مروره يستفزّها.

 وربما الفريسة الجريحة، النازفة تحتاج لمن يُخَلِّصها من ألمها، فيأتى دور القرش الطيِّبة.

وماذا نتوقَّع عندما نستفزّ أىّ كائن بالدم، هناك مَنْ هم أكثر حساسية منها للدم حتى داخل البحر.. ولا لوم عليهم بالمناسبة.

هى تأكل بجديَّة، قضمة واحدة أو قضمتين، قضمات قليلة على أىّ حال، بقوة وحَسْم، وتمضى القرش فى طريقها، لا تهتم بأن تُنْهى وجْبَتَها، فقط تأكل ما يكفى بالكاد لتقطع مسافة إضافية فى سفرها وبحثها عن قصة حبها، تأكل بلا تَلَذُّذ أو استمتاع، يمكن ملاحظة هذا بسهولة، تريد أن تنتهى من قَضْمَتِها بأسرع طريقة، ليست شراسة وإنما جديَّة ورغبة فى الانتهاء سريعًا، الطعام بالنسبة لها مجرد وقود للرحلة.

حتى فى الاصطياد، تحاول الانتهاء من الأمر سريعًا، لا تلهو بفريستها أو تُعذِّبها، فقط تُنْهى بحركة أو حركتين، هى لا تستمتع بالاصطياد، ليس لديها خِطط متنوعة له، فقط خطة واحدة: “الانتهاء فى أسرع وقت”.

كأنها غير قادرة على الاستمتاع بأىّ شىء طالما لم تحصُل على قصة حبها.

لا تَسبح باستعراض، مُتْعتها داخلية بالدرجة الأولى، والمتعة بالنسبة لها هى شعورها بالاستقلالية، وحزنها الشخصى العميق، شجنها، وقلبها الذى يبحث عن قصة يتكَسَّر لأجلها، وهذا الغموض، غموضها اللطيف، لسمكة القرش غموض فَضّى، عادةً ما يكون الغموض داكنًا بدرجة ما، لكن غموض سمكة القرش لامع وفَضِّى.

ليس فى شخصيتها أىّ شىء من التباهى أو الادِّعاء، رغم أننا نمنحها كل ما يجعلها تتباهى وتستعرض وتدَّعى، لكنها لا تفعل، غير مهتمة، ليس فى طبيعتها، ولا من طَبْعها، ولا تحتاج أيًّا من هذا كله، ربما هى الكائن الوحيد الذى نُشِكِّل عنه أساطير وحكايات، لكنه لا يهتم، ولا يستغلّها، تمضى القرش فى حياتها البسيطة، أسلوبها السهل الرشيق بطبيعته، رشاقتها الجادة، جَدِّيَتها الرشيقة، بلا تَجَهُّم أو مُبالَغَة، فقط انسيابيةَ الأسلوب وبساطته.

هى الأبسط فى ألوانها، الأسهل فى حركتها، ولا تَتَوَقَّع منها إلا أن تكون بسيطة وانسيابية فى داخلها وجوهرها.

تَسبح مع ألمها الشخصى الشفاف، وبساطتها، داخل حدود لا مرئية ومحسوسة جدًا فى الوقت نفسه، تُفَضِّل الأعماق حتى لا تضطر إلى التعامل مع السخافات، لا تحتاج أن تُغنِّى مثلما يفعل الحوت، لا تحتاج أن تؤدى عروضًا مثل الدولفين، ولا أن تَظَلَّ مثله مُبتَسِمة، لا تحتاج أذْرُعًا عديدة كالأخطبوط لتتمَلَّك من شىء أو أحد، لا تمارس حركات وألاعيب للتمويه والخداع، لا تحتاج أن يكون جلدها سامًا أو مُبَهرَجًا بألوان، لا تُطلق رائحة كريهة أو عطرًا، فليست فى حاجة لتُبْعد أحدًا عنها أو تجذبه إليها، هى مُكتفية ببساطتها، واستقلاليتها، ورشاقتها وجدِّيتها وحدودها الشخصية، جاذبيتها الخاصة التى لا تتعمَّدها، غموضها اللامع، وعَتْمَتها الشفافة الرائقة، مُكتفية بأشيائها القليلة، وتفاصيلها التى لا تُشبه أحدًا ولا أحد يُشبهها، وجدانها مسكون بقلب يبحث عن قصة حب، هى حمولة من مشاعر تحت غطاء من هدوء، وهذا ما يليق بكل بسيط وعميق معًا.

داخل البحر الكبير، تَسبح سمكة القرش داخل بحرها الخاص.

لو تقترب منها، فأنت تقترب لأجل جوهرها، داخلها، لأجل هذا القلب الثلاثينى المُحِب، الذى يحمل بداخله كبريائه بلا هوادة، قلب جليدى من النار، صلب من الهشاشة، قلب يتوق إلى أن يتكَسَّر.

 سمكة القرش، وهذا عذابها وراحتها وجمالها، قلب لا يتنازل عن كبريائه، ولا يتنازل عن قصة حبه، يُفتش عنها فى بحار الدنيا، كل بحار الدنيا.. قصة واحدة إلى الأبد، يتكسَّر بها قلبها ويحيا، ولأجلها، لأجل قصة حبها الوحيدة، تبقى سمكة القرش.. شابة ثلاثينية للأبد.

……………….

*من كتاب: أنا أحب هذا العالم، قيد النشر

 

مقالات من نفس القسم

محمد العنيزي
كتابة
موقع الكتابة

أمطار