“بيت السناري” .. رواية المكان والتاريخ المنسي

بيت السناري
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

د. عفاف عبد المعطي

تقدم الرواية التاريخية احداثا كبرى حسبما اتفق القوم على اعتبارها مفاصل أساسية فى مسار الامم والدول ، مع اعتبار التوغل فى الماضى ومد جذوره حتى الحاضر. ومن هنا فعلاقة الرواية التى تتناول التاريخ من منظور العصر الحاضر علاقة تواصل. لذلك يعدّ الروائى مؤرخ الحاضر كما ذكر الاخوان جونكور، وقد كان لجورج لوكاتش الفضل الأكبر فى الكتابة التنظيرية عن الرواية التاريخية، بعد أن عرَّف كاتب الرواية التاريخية بأنه لا يلتفت الى الماضى الا من خلال حاضره، على الرغم من أن تصوير التاريخ أمر مستحيل على المرء ما لم يحدد صلته بالماضى وما لم يحدد صلته بالحاضر. إن الرواية التاريخية تنطلق من أحداث وذوات حقيقية مختلفة فى الغالب وتشكل جزءاً من تاريخنا وماضينا الممتد حتى اللحظة الراهنة.
من ذلك النوع من الروايات التى تأخذ من معين التاريخ، رواية الكاتب عمار على حسن (بيت السنارى) الصادرة عن الدار المصرية اللبنانية، وبيت السنارى أثر قديم يقع فى حى السيدة زينب كما ذكر الجبرتى، وهو بناء من نوعية القصور الضخمة التى لا تزال باقية من آثار المماليك، وقد تم بناؤه للصفوة.. بناه إبراهيم كتخده السنارى، وأنفق عليه أموالا طائلة.
وابراهيم كتخدة السنارى، عبد من أحراش السودان من قرية سنارة وهى جزء من مدينة دنقلة فى السودان، ثم نزح مع الرقيق إلى مصر، لكنه استطاع أن يتوغل مع المماليك، وأتقن اللغة التركية تقربا للباب العالى، ثم هادن المماليك الذين هم مصطفى بك ومراد بك حتى حصل على لقب كتخده وهو لقب لم يعط إلا لكبار المماليك بيض وشٌقر، لذلك كان مستغربا أن ينال هذا العبد الأسود تلك الحظوة.
وإن كان يُسأل دائما من أين نال تلك المكانة المتجسدة فى لقب كتخده الذى لا يمنح سوى لأعيان المماليك البيض الشُقر والترك وكذلك المال، وهو العبد الأسوء، وهو ما يدل على توغله بين المماليك على الرغم من رده الأثير: ” ولا سرّ ولا حاجة ” ليتدخل الراوى بما علمه عنه: ” الرجل افاق يسحر وينجم ويضرب الودع ويقرأ الكف ويزعم أنه يعرف الغيب ، وهذا جعل له مالا ومكانة ” .
تطالعنا الرواية بإبراهيم كتخده السنارى وهو فى بيته الفخم وحوله خدمه وتفاصيل حياته المترفة التى لا تنفك أن تنتهى بقدوم الحملة الفرنسية على مصر 1798 التى رحلت خائبة فى عام 1801 وهو الزمن الفعلى للنص . ومكان النص هو المحروسة “الفرنسيس على باب القاهرة والناس يتجمعون فى كل الساحات، بركة الفيل – قراميدان – الازبكية – الرميلة وبيت القاضى”. لقد استطاع النص وهو مما يمكن أن نعتبره من نوع الروايات الحوارية القائمة جميعها على الحوار لكنه الحوار المعلوماتى الفاعل الذى يقدم عبر ثناياه معلومات تغنى القارئ بقدر ما عن سرد الراوى، وإن كان لسرد الراوى الكثير من الفنون الحكائية التى يتمثلها دالة على تفاصيل النص.
إبراهيم كتخده السنارى ليس بطل النص بل هو محور النص الذى يبدأ منه وينتهى إليه الزمن القار بين البداية والنهاية الذى يصنع النص. كما أن الشخصيات القليلة التى تكاثف بها النص هى التى تدور فى فلك السنارى باستثناء شخصية (زينة) بطلة النص وأكثره فاعلية وحراك للشخصيات والأحداث. زينة جارية وخليلة ومزاج إبراهيم كتخده التى تشعر من خلال علاقتهما على مدار النص أنهما شقان لشيء مكتمل لا يصح وجود شق دون الآخر، ولعلهما كذلك (زينة الجارية الجميلة وإبراهيم السنارى) نظرا لما لهما من وشائج تجمع بينهما، أهمها النشأة الوضيعة – الفقر – اليُتم – الحاجة إلى الاحتواء، وإن كانت زينة لديها الحاجة إلى إبراهيم السنارى أكثر لافتقادها لأبيها الذى قتله المماليك وزجوا بجثته فى المياه.
المنظور السردى الأساسى فى رواية (بيت السنارى) يرتبط بالعلاقة بين السرد والحكاية أو بين الحكاية والطريقة التى تحكى بها.
فالحكاية فى الأساس وصف للاستعمار الذى حاق بمصر من الباب العالى بالأستانة وحسب مصالح الاتراك، ومن داخل هذا الاستعمار استعمار آخر خاص بالمماليك فى مصر الذين ينهبون ثروات البلاد بحجة حماية المصريين الذين ولدوا رعايا وعاشوا رعايا عاجزين عن حماية أنفسهم، لذلك يحصّلون من المصريين فِردة واجبة السداد، ثم الاستعمار الفرنسى الذى أتى إلى مصر بحجة تقديم التقدم العلمى وصادر بيت السنارى لجعله مَجمعا علميا لدراسة حال البلاد لكنه قناع للاحتلال الذى ظل ثلاثة سنوات لولا سوء تدابير الفرنسيين وقتالهم مع المماليك وإشعال الدولة العثمانية التناحر بينهما حتى تكسب هى بقاءها وبالتالي نهب ثروات المحروسة.
ولقد كان للمماليك من الخضوع ما يعزز ذلك وهو ما قرره إبراهيم السنارى لحسن باشا القيطان الذى اغتال أعدادًا من أمراء المماليك فى مذبحة صغيرة بأمر من الباب العالى :” نتمنى أن يكون حضرة السلطان على دراية بأن ولاءنا للباب العالى ليس له حدود، وإننا على استعداد تام لوضع رجالنا ومالنا وما نعرفه عن كل كبيرة وصغيرة ببر مصر فى خدمة الدولة العليا”.
إذا كانت بنية الصراع هى القائمة الأساسية لهذا النص متمثلة فى الصراع الأكبر لجماعة من المستعمرين (الترك / المماليك / الفرنسيس ) حسب لغة النص فإن هناك صراع آخر هو الصراع على الأنثى (زينة) بطلة النص وخليلة إبراهيم السنارى وحبيبته المخلصة التى تستخدم رجلين عشقاها فى سبيل تأمين السنارى بعد هروبه من الفرنسيين بعد أن صادروا بيته (بيت السنارى ) وكذلك تأمينه في صراعه مع المماليك، بل ومع الأتراك الذين يرغبون فى إبادته هو وبقايا أمراء المماليك.
فتستخدم زينة الشاب المصرى (حسن جعيدى) الذى يكره السنارى لحبه لزينة ويكره المماليك لنهبهم ثروات مصر بحجة حماية المصريين.
وكذلك استخدام زينة للضابط الفرنسى دوبرييه الذى أحبها واعتبر وجودها في حياته ستكون عوضا عن حبيبته ايلين التى افتقدها فى فرنسا.. لذلك ردد كثيرا :” اذا كانت الحبيبة ايلين قد ضاعت مِنى فى فرنسا، فإن ايلين الحبيبة المصرية لن تضيع منى “.
وبقدر كبير استخدم النص تيمة المونولوج وهى مأخوذة من تقنيات المسرح وهو ما يعنى إيراد أفكار الشخصية إيرادا حرفيا مثلما تم تلفيظها فى ذهن الشخصية (مونولوج داخلى) وهو ما لا تستطيع الشخصية التعبير عنه سوى بداخلها فحسب، ومنه ما يدور داخل حسن جعيدى من مشاعر متذبذبة تجاه المماليك، وإن كان يميل إلى الكره، ومن ثم حواره مع المملوك الذى يرى أن المصريين رعايا حقراء وأن المماليك يصدون عنهم اعتداء الفرنسيين. كذلك دوبرييه الضابط الفرنسى وتخليه عن صفته العسكرية وعدم رجوعه مع الحملة الفرنسية وبقائه فى مصر وانضمامه لصفوف الجنود الأتراك كى يبقى بجانب الحبيبة زينة (ايلين المصرية).
ويمكن بدقة تطبيق منوال الفواعل أو الدوائر الفاعلة فى النص والتى تحدد المفاصل الأساسية المرتكز عليها، وأهمها: دوائر عمل الشخصيات.
الدائرة الأولى: دائرة المعتدى (المماليك /الترك/ الفرنسيون / الانجليز ) وكلٌ يعمل على احتلال المحروسة حسب هواه ومصالحه.
الدائرة الثانية: دائرة الواهب التى يجسدها إبراهيم كتخده ممثلا لأمراء المماليك وللدولة العثمانية إذ يهب صدقات للمصريين فى يوم الصدقات الذى يحدده لهم أسبوعيا وكله من مال المصريين أي ينفق مما لا يملك.
الدائرة الثالثة: دائرة الأمير أو الشخص مناط السرد، وتجسدها زينة خليلة إبراهيم السنارى وسط عشاقها ابراهيم كتخدة السنارى وحسن جعيدى الشاب المصرى ودوبرييه الضابط الفرنسى.
الدائرة الرابعة: دائرة المساعد، متجسدة فى الشعب المصرى الذى يساعد مُستعمِر وعدو أصغر هو المماليك ضد المستعمر الأكبر وهو الفرنسيين والانجليز حسب مصالحهم، وهو ما يمثل أكبر إدانة للمصريين الذين لم يكن لهم جيش من أبناء الشعب يزود عن الوطن كل هؤلاء المستعمرين وهناك إدانة أخرى فى النص لرجل الدين الشيخ خضيرى شيخ الجامع الذي أينما حلّت مصلحته ارتكن، فكان جاسوسا للأتراك على المماليك لمصلحته، وكان يهادن ويساعد إبراهيم كتخده لما ينال منه من عطايا.
ولقد انتهى نص بيت السنارى بقتل إبراهيم كتخدة السنارى هو وعدد من المماليك على يد حسن القطانى باشا فى الإسكندرية، لكن السنارى ترك رسالة لحبيبته زينة كتبها الروائى عمّار على حسن بلغه شديدة الوجع والتأثير، يكشف فيها اعترافه بحقيقته كزرع شيطانى ونبت ضعيف ارتمى فى أحضان غيلان المماليك، فما كان منه إلا أن يعيش بالتحايل والسحر والشعوذة بينهما.
وفى اعترافه الأخير: ( آن للجريح أن يستريح)، أكبر دلالة على إدراكه لما يفعل وتظاهره بالقوة كى يعيش وسط غابة المماليك، وتهيم (زينة) على وجهها ملقيةً نظرة آسفة على عشيقيها: حسن جعيدى المواطن المصرى الخانج الذى لا يمتلك شئ لصد كمّ المستعمرين لبلده، ودوبرييه العاشق الفرنسى الذى لم يبق له سوى تعلقه بها بعد أن افتضح أمره ولاقى الكثير من الاحتقار من الجنود الفرنسيين.

عودة إلى الملف

مقالات من نفس القسم