بالونات ريما حمود .. وضرورة التغيير!

بالونات ريما حمود .. وضرورة التغيير!
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

" على قد لحافك مد رجليك " .. كثيرًا ما استوقفني هذا المثل الشعبي المصري بدلالته وارتباطه بثقافتنا العربية التي تزرع في أبنائها منذ الصغر قيمًا وأفكار تخشى " تغيير " اللحاف " أو السعي إلى استبداله بآخر مناسب ، وترى أن الرضى بالوضع القائم حتى لو كان مأساوياً مزرياً أفضل بكثير من تغيير مجهول النتائج ، فنحن أمة تسمي الرضى بالضيم " نعمة الاستقرار " فالحلم في عاداتنا هو نوع من الترف الفكري لأن المثل الشعبي يقول " اللى يبص لفوقيتعب " ولأننا لا نريد أن تعب فقد قررنا أن نخترع مبررات للتقزم والتردي والتخلف في كل جوانب الحياة ، 

ونتكيف مع هذه المبررات الهشة الفارغة المضمون كالبالونات المنتفخة بالهواء ، في مجموعتها القصصية ” بالونات ” تطرح الكاتبة الأردنية ريما حمود قضية الخوف من التغيير والاستسلام للظروف القائمة والأمر الواقع ، ومحاولة تجميل هذا الرضوخ بصنع الكثير من المبررات التي تمليء حياتنا لأننا نبحث دائمًا عن اليقين المضمون ونخشى الاحتمالات والمجهول والمغامرة ، يخاف الإنسان دائمًا من التغيير لأنه اعتاد حجم الألم الذي يمكن تحملُه في حالة البؤس والشقاء التي قد يعيشها لكنه يخاف أن يتسبب التغيير في إفراز وضعٍ أكثر بؤساً وشقاءً ، لذلك فهو يحتاج إلى مبررات أو ” بالونات ” يخلقها كما تصور الكاتبة حتى يقنع نفسه بأنه مكبّل وغير قادر على تغيير الأوضاع الحياتية التي يعيشها ، ويضطر إلى تضخيم أسباب الخوف واليأس والجمود ليخفي هشاشتها الداخلية حتى تنتفخ وتصير مقنعة أكثر كالبالون الهش الذي لا يحتاج لأكثر من إبرة ضئيلة الحجم لتثقبه وتعيده إلى حجمه الطبيعي .

إن هذه البالونات المنتفخة من المبررات والحواجز الوهمية التي يصنعها الإنسان لتقف بينه وبين أحلامه وطموحاته تقتل كل ددوافع التغيير في حياته ، وتسيطر على تفكيره لأنها تصبح جزء من عاداته بمرور الوقت ، فيشعر بالارتياح النفسي والرضى الوهمي عن الذات عندما يخلق لنفسه المبررات والموانع التي تجبره على الرضى بالأحوال السيئة وتجعله يشعر بالتقزم والوهن أمام أصغر المشكلات خصوصاً في ظل وتيرة الحياة السريعة وسيطرة التطور المادي الناتج عن توغل الرأسمالية المتوحشة وتحجيمها لدور الفرد ، وانخراط الأفراد في جماعات وتكتلات وائتلافات كمحاولة لمواجهة بطش رأس المال والمباني الشاهقة وتطور الأسلحة والتغييرات المستمرة في أشكال المنتجات الرأسمالية وشعور الإنسان بالضعف حيالها.

في قصة ” اتجاهات ” تُلقي الكاتبة الضوء على الأحلام والأشخاص الذين يشبهوننا ونقابلهم مصادفة في خضم اشتباكنا مع تفاصيل الحياة وضروراتها ، فنضطر إلى أن نفارقهم ويمضي كلٌّ منا في اتجاه مختلف . وفي هذه القصة تعتمد القاصة على الإشارة والتلميح لا التصريح ، وفي قصة ” أرقام ” تتناول الكاتبة قضية تشيؤ الإنسان وتحوله إلى مجرد رقم في حياة تحكمها الاستهلاكية والمادية .

 إن جفاف العالم يحتاج إلى ثورة جمالية كما صورت الكاتبة ذلك في قصة ” إطار ” التي ارتكزت فيها على أنسنة الأشياء والكائنات ، فحولت الغزال باللوحة المعلقة على الجدار إلى إنسان تنفض عن وجهه ذرات التراب ، وتبكي وتضحك أمامه وهنا يبرز اتكاء الفن على العالم الافتراضي الحالم والمتخيل لمقاومة الواقع القاسي الصارم ، وتتجلى الدعوة إلى التحرر من القيود في تحرير البطلة للغزال في نهاية القصة فنراهُ يقفز إلى جوارها ويتحرر من التصاقه الدائم بالجدار لتلقي هي بالإطار فوق رؤوس الجميع .

إن الفن نوع من الثورة على أنماط التفكير السلبية السائدة التي تأخذ شكل المسلَّمات والبديهيات مع مرور الوقت لتتحول إلى جدران تحجب التنوير والجمال الكوني ، لهذا ترى الكاتبة ضرورة تحطيم هذه الجدران التي تغلف حياة الناس بقيود المنع والتقييد والتكبيل التي ترتكز على أفكار بالية ، وتدعو إلى إطلاق غزلان التحرر الفكري والثورة الجمالية على القبح والجمود والرتابة .

رغم ما يعانيه الإنسان في عصرنا من هموم وما يحيط به من مشاكل تثق الكاتبة في قدرة الإنسان على مواجهة الإشكاليات وحلها ، لإيمانها أن الحلول تنبع من داخل الذات البشرية وما لديها من قدرات تحتاج فقط إلى أن نطلق لها العنان لتعمل وتنطلق ، ويظهر ذلك في قصة ” أنوثة ” التي تلجأ فيها البطلة إلى مشعوذة ترد سحر من تُحبه عنها ، فتطردها الساحرة في غضبٍ قائلة لها ” إليك عني …أنت أردته … أنت أطلقيه ” .

لقد أصبح الإنسان العربي ينزعج من أي تغيير ، فحتى الضوء أصبح يؤرقه وتصور الكاتبة ذلك في قصة ” بقعة ضوء ” التي استخدمت فيها مشهدًا محتشدا ” بالفانتازيا ” لشخص ميت تزعجه حالة الفوضى الصاخبة والحركة المستمرة فوق قبره ، ويشعر بالغضب من أصوات الركض و الصراخ و الزلازل و العويل فوقه ، فتتجلى الراحة في المشهد كأنها حلمٌ بعيد المنال على الإنسان حتى في قبرِه ، وما يلفت النظر في هذه القصة هو عدم توضيح الكاتبة لأسباب الركض و الصراخ والعويل فوق القبور ، وكأنها تشير إلى أن هذا الوضع هو الوضع الطبيعي للعالم الآن حيث يعاني الأحياء من الفوضى والصخب المزعج وكأنهم في حالة ركض ورعب وقلق دائم يدفعهم إلى الصراخ والعويل لأي سبب.

في قصة ” بلا اسم ” تصور الكاتبة المشهد السياسي العربي الراهن والصراعات الأيدولوجية التي تتسبب في تدمير الأوطان في مشهدٍ موازٍ لمجموعة من السيدات يتقاتلن بسبب اختلافهن حول تسمية الجنين الذي ستلدُه إحدى سيدات العائلة ولم يأتِ إلى الحياة بعد ، وفي تفاصيل ساخرة ودالة في نفس الوقت ، يتسبب الاشتباك بالأيدي بينهم إلى إجهاض السيدة ” الحامل ” واختفاء الطفل كنتيجة لهذا الصراع الدامي بسبب اختلاف وجهات النظر حول اختيار الإسم . 

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

شاعر مصري مقيم بالكويت 

مقالات من نفس القسم