“ابتكار الألم” لمحمد جعفر.. استنطاق لأوجاع لا تموت

موقع الكتابة الثقافي
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

أحمد طيباوي

منذ متى لم تتمخض الحياة عن الألم حتى يحاول كاتب أن يبتكره من جديد؟ في مجموعته القصصية ابتكار الألم الصادرة عن منشورات الاختلاف في صيف 2017، حاول محمد جعفر أن يسلط الضوء، من خلال إحدى عشرة قصة، على مساحات مخفية من النفس البشرية يستبيحها الألم، وينتهك سلامها الداخلي في صمت، تتكشف-بلغة متقنة ومكثفة المضامين- أوجاع مسكوت عنها، أو يغفل عنها البعض منا وربما لا يعتبرها موجودة لآن الحياة الخاصة لكل أبطال قصصه تتولد عنها آلام يتجاهلها الكثيرون، أو لم تكن محل تجريب من قبل، فيجتهد هو في كشفها وتعريتها وابتكارها على نحو آخر لتشفى وتنتهي أعراضها ومسبباتها لكي لا تبقى تلك الآلام مجرد قاتلة بكماء، مثل صرخة استغاثة أو تنبيه. أو ينبهنا أن بعض الألم هو ثمن عادل للبقاء على قيد الحياة.

في قصة الشك، تتجرع الزوجة مهانة التغاضي عن انتهاكات زوجها المحتملة للعلاقة المقدسة، تتحمل أن يقتل الألم جزءا منها لتسمح للجزء المتبقي بالعيش، حيث ضياع الأولاد والوحدة وأطماع الناس تتربص بها إذا ما انتصرت لكرامتها وغالبت ألما يخنقها عندما يلقي الشك بظلاله على تفكيرها،  ويكون عليها المفاضلة بين ألمين أو أكثر، تماما مثل ما وجد البطل نفسه في قصة “الحاجز” منتقلا من كونه صاحب قضية ومطارد إلى آخر مجهول لا يعبأ به أحد، أليس موجعا أن ينتهي النضال إلى أثر باهت أو ظل شفاف لا يثير نقمة أحد أو حتى شفقته؟ ويواصل محمد جعفر ابتكار الألم على نحو آخر في قصة “المرأة التي سقطت من غيمة” حيث تتعذر على البطلة الحياة ويتمنع عليها الموت المخلص إذ حاولت الانتحار لتهرب من وجع الأنثى المستباحة الحرية، وتصبح فوق ذلك  محط  اللوم المريض بالروح الجماعية التي صنعتها قرون من النظرة الفوقية للنساء ككائنات غير مؤهلة، وتبقى على الحاجز الفاصل ما بين الموت والحياة، تقف على قمة شاهقة من الفجيعة لا يطاولها حتى الألم بجبروته مهما أعيد ابتكاره ليكون على مقاس محنتها. نوع آخر من الألم طرقه الكاتب في قصة أخرى هي “الفحل الذي أكل قلبه”، ألم يقتل إنسانية الإنسان حتى لو كان برتبة مثقف، كاتب لامع يبحث عن الارتواء الحسي يتخذ من لقائه مع كاتبة مغمورة تريد ان تتسلق سلم المجد والشهرة، لا بموهبتها، بل بجسدها الفوار تمنحه ثمنا لمديح مضلل من طرفه يعينها على البروز، يتخذ من اللقاء وهو الذي جفت قريحته ونضب معين خياله قصة يدفعها لمجلة تستكتبه، ثمن مادي زهيد لقاء خسارة نفسية لا تعوض. ومن أجل أن ننهي هذا المسح الانتقائي للمجموعة، وبفضل قصة “الأعمى مبصرا”، سيكتشف القارئ أن الألم قد يكون مثمرا أحيانا، يمنح البصيرة ويحارب عمى السذاجة وقلة الحيلة والتجربة المحدودة، حيث يفهم البطل أن ألم غيرته على حبيبته السابقة وتجاهلها إياه أن الحب –مثل أي قضية إنسانية- يبقى قضية صادقة ما لم يخذلها الزمن أو تخونها التجربة أو يلوي زمامها المحك). لنتعلم أن التقدم في حياتنا واستكشاف دروب جديدة فيها إنما هو صنيعة الم عابر مهما كانت حدته نجم عن عمى مؤقت أو قصر نظر كان يجب أن ندفع ثمنه لنتعلم.

………….

* روائي وأكاديمي من الجزائر

 

مقالات من نفس القسم