بائع الحنين .. اقتناص الذكرى و العودة إلى الماضي
يسعى حسام الدين فاروق في مجموعته الأولى بائع الحنين الصادرة مؤخرًا عن دار روافد للنشر التوزيع إلى بلورة معنى الحنين في قالب قصصي شديد الرهافة . فعبر أربع و عشرين قصة قصيرة يقتنص حالات خاصة جدا ً قد تبدو للقارئ ذاتية للغاية ، لكن مع استمرار القراءة سنُدرك أن رغبة الكاتب في الفضفضة كانت أقوى من أي شيء .
بداية جاء الغلاف مُعبرا ً عن المجموعة ، نجحتالمُصممة داليا عزيز في جمع توليفة من أغلب أيقونات الأجيال السابقة بدءا ً من السلم الموسيقي الذي كنا نتعذب لرسمه في كراسة الموسيقى (الآن اختفت حصة الموسيقى من المدارس) والراديو الخشبي القديم الذي كان أشبه بالآلة في زمنه ، والعملات فئة الخمس قروش الورقية ، و وابور الجاز، الطربوش ، أفلام الكاميرا التي اندثرت بعد ظهور تكنولوجيا الهواتف المحمولة و الكاميرات الرقمية و أيضا ً لا تنسى الفونغراف المُنقرض المأسوف على اسطوانته السوداء الكبيرة الحجم.
يحتفي حسام بعدة أفكار في هذه المجموعة ، لعل أبرزها الحنين ، الحنين لزمن ولى وفات ، كانت البراءة والصدق فيه معيار التعامل وليس الحقد أو الخبث كما هو الحال الآن . يتضح ذلك من خلال قصة " بائع الحنين " ، يرصد الكاتب حنينه للجد و الأم التي غادرت العالم . لجأ الكاتب للحالة الغرائبية التي أسقط فيها الراوي . ليستنبط رؤاه الداخلية ، اكتشافه رغبته المدفونة لصديقة قديمة . والأهم اكتشافه لنفسه .
أيضا ً في قصة " على أعتاب اللحظة المُناسبة " نجد مرثية لزمن الطفولة منبع البراءة ، تقنية الكتابة التي استعان بها الكاتب ، حيث بدأ بالماضي ، ثم ارتد للحاضر ، في مقارنة لافتة بين الزمنين . و الأهم أن هذه المقارنة أوضحت بذكاء أن لكل زمن رونقه ،فما نعده الآن زمنا ً جميلا ً. سيأتي الجيل الذي يلينا ويذكر أن هذا الزمن زمنا ً جميلا ً أيضا ً . يسعى الراوي لاستعادة ماضيه من خلال الاتصال بصديقه القديم المُحب لساندويتشات المربى ، الذي أكتشف فيه مؤخرا ً نكرانا ً للجميل . برفضه مقابلته و تحججه بوضعه الجديد بحكم وظيفته أنه لا يملك الوقت الكافي ، ولسان حاله " قول للزمان ارجع يا زمان " .
يستكمل حسام التأكيد على فكرة "الاحتفاء بالماضي" في قصة "صانع الظلال" . الحنين لزمن الفرحة بتكوين الظلال على الحوائط وقت انقطاع الكهرباء، تجمع الناس حول ضوء شمعة وحيد يرفرف خائفا ً من الانزواء ، ليس مثلما يحدث الآن ، الجميع يتجمع فعلا لكن كل واحد مُمسك بهاتفه المحمول ولا داعي للشمعة أو حتى كشاف كهربائي .
أحد الأفكار التي يحاول حسام بلورتها في هذه المجموعة هي قيمة "الأم"، حيث يتضح حنين الكاتب لأمه التي غادرت العالم منذ فترة ليست قريبة . نلمح ذلك في قصة " عام الرحيل " أربع رسائل مُرسلة للأم ، مُمتلئة بصدق نادر ، " العيد بلا صمتك المعبر ، وعيديتك الدافئة ، وانتظارك لي بعد الصلاة في البلكونة ، وكوب الشاي بلبن مع الكحك و البسكويت .. لا معنى له " .
المجموعة مليئة بقصص يُمكن أن نطلق عليها حالات ، عبر فيها الكاتب عن حالة ما ، ليست بالضرورة أن هذه الفكرة أو الحالة تؤرقه ، بل نجده عبر عن هذه الحالات و لعل من أبرز هذه الحالات " قصة مقعد وحيد يطل على الميدان " يرصد فيها حسام الوحدة ، فالراوي الوحيد ، الذي يتناول يوميا ً طعامه بمفرده ، ولعل أقسى درجات القسوة و الوحدانية أن يتناول الإنسان وجبته بمفرده ، يتعلق بابتسامة السيدة كطوق نجاه ينتشله من وحدته ، تحولت معرفتهما العابرة لصداقة متينة ، أدخلته في حياتها برفق ثم تكشف له مشهد حياتها العبثي كاملا ً بعد ذلك . حتى تهجره بحيلة لطيفة ، تخدعه بأنها ليست السيدة التي شاهدت معه فيلم بوحة في أشارة رمزية لتفاهة ذكراها التي لن تعلق بذاكرته بعد ذلك ، وكأنها ذكرى عابرة لن تعلق بالذهن لوقت طويل .
أيضا ً في قصص " ذبيح " و " خمر وردي " و في المنام " يستكمل رؤاه الشفيفة ، وحالاته التي لا ينقطع إلهامها . قراءة هذه النصوص تشبه التطلع للوحة و الغوص في ألوانها و محاولة استكشاف ما وراء اللوحة من معان .
تبدو السياسة في هذه المجموعة كضيف خفيف عابر، نجدها في قصة " فجر بلا أذان " التي يرصد فيها الكاتب تبعات 30 يونيو في مشهد صادق للغاية ، و مُعبر عن حالة الفرقة التي عايشناها إبان تلك الأحداث . كل هذا بعيدا ً عن المباشرة و الزعيق .
لا نبالغ إن قلنا أن هذه المجموعة بالغة الرهافة ، صادقة . تُمسك بتلابيب القارئ دون أن يشعر . سعى كاتبها للتعبير عن الحنين ليس بالضرورة إلي الماضي إنما أيضًا إلى الذكريات الحلوة والأشياء صاحبة المذاق الذي لا يُنسى . كل هذا بلغة رقيقة شاعرية بعيدا ً عن أي تكلف لغوي.