الحيوات السرية لزوجات بابا سيجى .. الطرق على طبول “الممنوع” في المجتمعات الأفريقية

موقع الكتابة الثقافي
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

رامز عماد

يُعد فن الحكي المسرحي واحداً من أبسط وأقدم الأشكال الأدائية التي عُرفت على مر التاريخ، حيث بدأ مع رغبة الإنسان في وصف أحداثه اليومية أمام أفراد مجتمعه الصغير، ثم انتقل بعد ذلك ليُصبح فنا مستقلاً معبرًا عن ثقافات وأعراف بعض الشعوب التى كان يغلب عليها الطابع القبلي المغلق، حيث عمل ذلك الفن على مدار تاريخه في خلق وتصوير جو أعظم من الحقيقة في كشف الشخصيات والأحداث،

 وذلك لاعتماده بشكل أساسي على مجموعة من الأدوات المرتبطة بمجموعة من الآليات الأدائية والتي من أهمها الكلمات ذات الحس الموسيقي والمؤثرات الصوتية والتعبير الوجهي والأداء الجسدي والتكرار والإيقاع والتطور والمبالغة في سرد الأحداث، والأهم من ذلك كله  التفاعل مع الملتقي وتفاعل المتلقي نفسه مع ذلك الشكل الأدائي من خلال تطويع خياله لخلق صور تخيلية للأحداث، وكل هذا جعله فن مرتبط بشكل متجذر مع “ثقافات القارة الأفريقية” التي تعتمد في أساسها على الثقافة الشفاهية/الجسدية التىي تتكون في أساسها على الإيقاع والرقص والحكى أكثر من الأشكل الأدبى الأخرى المتمثلة في الكتابة، ففي الثقافة الأفريقية القديمة كانت اللغة هي الوسيلة الأساسية للتعلم ونقل ثقافة الفرد، كما استخدمت للمساعدة في تحديد وتمييز مختلف المجموعات والثقافات العرقية، وهذا ما قد يجعلنا نتسائل اليوم؛ هل تخلت الثقافة الأفريقية الحديثة عن تراثها الإنساني الذي يعتمد على الحكي وذلك فى خضم حالة “العولمة” التى تمر بها القارة السمراء، أم أنها مازالت منغرزة في عاداتها وتقاليدها والتى يُعد فن الحكى واحد من اهم روافدها التقليدية، وهذا ما سوف نعرفه من خلال عرض الحكى المسرحى الكينى “الحيوات السرية لزوجات بابا سيجى” للممثلة والمخرجة “ميمونة جالو”، والمأخوذ عن رواية تحمل نفس الإسم للكاتبة النيجيرية “لولا شونيين”، وذلك ضمن فعاليات الدورة الرابعة والعشرين من مهرجان القاهرة الدولى للمسرح المعاصر والتجريبى.

بإضاءة شبه ثابتة، وسينوجرافيا يغلب عليها الطابع الأفريقى التقليدي وبفضاء مسرح الغد المكانى ذو الطابع الحميمي، تبدأ “ميمونة” فى أخذ المتلقى إلى عالم مدينة “أيكارا” المنغلق ذات الطبيعة القبلية وذلك من خلال مقدمة تحكي فيها عالم أسرة “بابا سيجى” ذات الزوجات الأربعة والأطفال السبعة والتى يغلب عليها الطابع الهادئ إلى حد كبير، وذلك حتى يأتى اليوم الذى يُقرر فيه “بابا سيجى” بأن يأخذ زوجته الرابعة، والتي تختلف عن باقىيالزوجات إلى حد كبير، إلى الطبيب لكى يعرف سبب عدم إنجابه لأطفال منها، لتبدأ الأحداث في التعقيد، وتبدأ ميمونة في تقسيم عرضها إلى مجموعة من الفصول الضمنية التي تسهل على المتلقى تتبعه لباقى أحداث العرض.

اعتمدت ميمونة – وهى المؤدية والمخرجة والمعدة فى آن واحد- في بنائها لنص العرض على خلق خمسة شخصيات أساسية تظهر على المتلقى بشكل زمنى متتابع ومتساوى إلى قدر كبير أيضاً، حيث بدأت العرض واختتمته بشخصية الراوى المحايد، الذى يقف على مسافة محايدة تجاه أى شخصية من الشخصيات الأربعة واللاتى يمثلن شخصيات زوجات “بابا سيجى” وذلك على عكس دور الراوى المعُتاد فى عروض الحكى الأفريقية التقليدية حيث اننا نجد فى تلك العروض بأن الراوي ھو تلك الشخصیة التي ھي بمثابة المعادل الدرامي لشخصیة الحاكم المطلق في تلك المجتمعات الأفريقية ، فكلاھما یمسك مصائر الناس بین أصابعه، فالحاكم المطلق یتسلط علي شعبه والراوي یده مطلقة علي رقاب الشخصیات الدرامیة والروائیة یحیي ھذه ویمیت تلك ، یعطي من یشاء كما یشاء ویمنع ما شاء عمن یشاء.

أما عن الشخصيات الأربعة الأساسية داخل العرض، فتعمدت ميمونة -مرة أخرى- بأن تُعطى كل شخصية مساحتها الخاصة من حيث الأداء وأسلوب السرد والألفاظ المستخدمة، والمتمثلة فى مستويات متعددة من حيث الهيئة العامة والمرجعية الثقافية والإجتماعية والجسمانية لكل شخصية، فكل شخصية فى قصة “زوجات بابا سيجى” ذات طبيعة متفردة وتاريخ طويل يُتيح لها القدرة على تبرير أفعال الخيانة والمكر التى تمارسها طوال الأحداث دون أن تُشعر المتلقى بأى حالة من حالات النفور والفجاجة، بل تجعله يتعاطف مع كل شخصية فى بعض الأحيان.

فكل تلك التعقيدات الموجودة على مستويات السرد الخمسة التى قدمتها “ميمونة” وحدها أمام المتلقى كانت قادرة على تُثبت بأننا أمام شخصية ممثل ومخرج متفردة وقادرة على إقناع المتلقى بكل الحالات الوجدانية التى يمر بها اثناء العرض، وذلك دون أن يتعرض لأى حالة من حالات الملل، وهذا على الرغم من أن العرض مدته تصل إلى الساعة الكاملة، وهذا ما يندر على العروض التى تعتمد على الشخص الواحد، فعلى الرغم من أن العرض يحتوى فى مستواه الخلفى على مجموعة من الإيقاعات الموسيقية الأفريقية، والرقصات التقليدية التى تقدمها ميمونة فى مراحل التنقل من شخصية إلى الأخرى، إلا أنها ما كانت إلا محاولة لملئ بعض الفراغات التشكيلية والسمعية، دون أن تضفى أي حالة جديدة عن ما تقدمه “ميمونة” فى أدائها الحكائي والتمثيلي القادر على احتواء كل شئ .

أما عن الرواية الأساسية للكاتبة النجيرية “لولا شونيين” والتى تُمثل -هى أيضاً- حالة متفردة فى عالم الرواية الأفريقية، حيث يغلب عليها الطابع النسائى بعض الشيء، والتى نجدها تطرق الأبواب أمام بعض القضايا الشائكة التى تخص المجتمع الأفريقى الذى يغلب عليه الطابع المنغلق، حيث عملت على روايتها -و بالتبعية عمل العرض المسرحى- على خلق حالة من الثنائيات المتمثلة فى: العلم المقابل للجهل، والخيانة المقابلة للولاء، والإنغلاق المقابل للإنفتاح على الآخر، والمنقولة على الفضاء الحى من خلال شخصيات الزوجات الثلاثة الأوليات اللاتى يحملت قدر ضئيل من التعليم، والمعروف عنهن بأنهن لايخرجن للعالم الخارجى كثيراً، والمقابل لشخصية الزوجة الرابعة التى تحمل قدر كبير من التعليم والإنفتاح على الآخر.

لنكتشف فى نهاية الأحداث بأن كل ذلك الشكل الظاهرى المحافظ للشخصيات الثلاثة ماهو إلا قناع للخيانة -المبررة داخل الأحداث- وذلك على عكس الشخصية الرابعة التى على الرغم من أنها منفتحة على الآخر الا أنها تكن كامل الولاء لزوجها، ولنكتشف -أيضاً- فى النهاية بأن الزوج “بابا سيجى” نفسه يضطر إلى القبول كل تلك الخيانة بشكل انهزامي، وذلك حتى لا يُعرض سمعته إلى سوء، وذلك -تماماً- على عكس طبيعة الرجل الأفريقي التي تتسم بالحدية الشديدة.

اعتمدت العروض الحكى الأفريقية منذ زمن بعيد فى بنائها على حكى القصص الأسطورية والتاريخية التى تتميز بها البلدان الأفريقية، ولكن أن يتم حكى رواية حديثة قادمة من مجتمع “نيجيرى” فى عرض لمخرجة “كينية” بتقنيات يغلب عليها طابع حداثى بعض الشئ، هو الأمر الذى يُعد مختلف وقادر على إحداث الخلخلات الأيدوليوجية بعض الشئ .

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ناقد فني 

مقالات من نفس القسم