انتخابات

موقع الكتابة الثقافي uncategorized 12
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

عبد الرحمن أقريش

المساء، ذات زمن مغربي.
المكان رأس الدرب.
تجتمع شلتنا نحن الشباب في مكانها المعلوم، ندردش، نغني، ندخن خفية سجائرنا المحشوة، نثرثر، نتحدث في كل شيء، الكرة، السياسة، السينما، الحياة، الأحلام والكتب…
ينبغي أن تمر سنوات لنكتشف أن أحلامنا كانت مجرد أحلام، وأن الحياة كانت دوما أوسع من الكتب.
يمر (المقدم) غير بعيد، يتوقف، يلتفت، ينظر إلينا نظرة اتهام، يخاطبنا بنبرة يمتزج فيها التحذير بالتهديد.
– ياالله الشباب تفرقوا، باراكا سيروا تنعسوا، هاذا راه تجمهر غير قانوني!!
في ذلك الزمن كانت تهديداته حقيقية ومخيفة، فقد كانت البلد ما تزال ترزح تحت التأثير النفسي لسنوات الرصاص، كانت الدولة غولا في أوج سطوته، كان الصمت قانونا، والخوف سلطانا متوجا على النفوس.
تغرق المدينة في خضم حملة انتخابية محمومة ومسعورة، حملة هي خليط غريب تمتزج فيه سلطة المال بقوة القانون والفوضى.
وقفنا ننظر، نتأمل المشهد.
لافتات، مناشير، منصات للرقص، وأخرى للخطابة، من بعيد يبدو الموكب الانتخابي قادما، يخترق الأزقة الضيقة للمدينة القديمة، في المقدمة، يمشي المرشح (عبد اللطيف) بثقة، هو وزير سابق، يتقدم للانتخابات للمرة الثالثة ممثلا لحزب ولد قبل الانتخابات بأسابيع، عن يمينه ويساره حراس شداد، خريجو سجون وأصحاب سوابق، يحمل أحدهم علبة (كرطون) محشوة بالأوراق المالية، وبين الحين والآخر يتوقف الموكب، يمد الوزير يده، يوزع الأوراق المالية ذات اليمين وذات الشمال على الجمهور بسخاء.
تمتد الأيدي، تأخذ نصيبها من غنيمة المال الانتخابي.
هيمن الليل تدريجيا، وصل الموكب إلى حي (الحفرة)، وهو ماخور في قاع المدينة، عند المدخل في الجهة الأخرى انطلقت (زفة) لاستقبال الموكب، تتقدمه القوادة (طيت فيد)، وهي وسيطة في خريف العمر.
أمام البيوت الواطئة، تقف نساء بأعمار مختلفة، وبأجساد نصف عارية، أجساد أنهكها الإستعمال والسهر والسجائر والخمور الرديئة…
كان الفضاء مؤثثا بتفاصيل أخرى، أعلام، قمصان، قبعات بلون الحزب، بهرجة وتبرج فاضح.
تنطلق الزغاريد والهتافات.
– داها أداها، والله ما خلاها…
– لا دجاج لا بيبي، الوزير هو حبيبي…
مثل حكم مباراة، وبحركة مسرحية من يديه توقف الموكب، وعاد الصمت تدريجيا، وبدأ المرشح في مخاطبة الجمهور، جمهور نصفه الأول حشاشون وعاطلون كسالى، ونصفه الآخر مومسات من الدرجة الخامسة.
– احنا عندنا برنامج واضح ومعقول وقابل للتطبيق…غاديين نرجعو للمدينة الإشعاع الفني والثقافي ديالها، وغادي نشغلوا الشباب، ونوفرو السكن والمدارس والمستشفيات و…
قاطعته (الزفة)، زغاريد، هتافات.
– إلى كالها يكد بها، إلى كالها يكد بها…
بعد هدوء مؤقت، يسترسل الوزير.
– احنا بغينا الخير لهاذ البلاد، احنا جبنا الاستقلال، وطردنا فرنسا والنصارى، وبنينا السدود…
توقف عن الكلام للحظات، وكأنما ليؤكد أهمية ما قيل، وخطورة ما سيقال، ثم استأنف كلامه.
– احنا البرنامج ديالنا قائم على أولويات، بغينا نسترجعو الهيبة ديال الدولة والمخزن، نبنيو التنمية باش الشعب يسترجع الكرامة ديالو، ويعيش مزيان…
هذا زمان القانون والنظام، هذا عهد جديد…
خاصنا نحاربو الفوضى والسيبة…
خاصنا نحاربو الفساد!!
ثم لسبب ما، ساد الصمت، صمت رهيب، ثقيل وممتد، دارت الأعين في اتجاهات مختلفة، نظرات مستفسرة، غريبة ولكن لها معنى.
اعترضت القوادة (طيت فيد)
– أويلي أسيدي الوزير، واحنا باش نعيشو إلى انتوما حاربتو الفساد؟!
تعالى الصفير وصيحات الاحتجاج.
ظل الوزير صامتا للحظات، بلع ريقة، انتبه للمأزق، مأزق اللغة، ثم عندما استوعب الموقف، استطرد قائلا.
– لا، لا، لا، ماشي هذاك الفساد لي كنقصد…احنا غادي نحاربو الفساد المالي والإداري داخل المؤسسات ديال الدولة…غادي نحاربو الرشوة والمحسوبية والزبونية وباك صاحبي…
انطلقت الهتافات من جديد.
– إلى كالها يكد بها…
تظاهرت (طيت فيد) بالفهم، أشارت بيد مخضبة بالحناء، تجولت ببصرها بين الجمهور بحثا عن زبناء محتملين، وغمزت بعينيها في حركة إغراء تفضح أطلالا وبقايا جمال لا تخطئها العين.
ثم انطلق الموكب من جديد، يسير، يواصل طريقه، يتقدم، يخترق الأزقة الضيقة للأحياء الشعبية، يتوغل داخل المدينة، ثم ينحرف إلى اليمين تدريجيا في اتجاه الأحياء التي تقع خارج المدينة القديمة.
على السور الأثري وفي مكان عال يشرف على المدينة القديمة، يجلس رجل (شمكار) في حدود الأربعين أو يزيد قليلا، يدلي رجليه في وضعية مريحة، يؤرجحهما، يحتسي كؤوس الماحيا، وينفث دخان سيجارة محشوة، جلس هناك ينظر، يتأمل المشهد، وينتظر وصول الموكب.
ثم عندما أصبح الموكب على بعد خطوات من السور، تحرك الرجل، اعتدل، رفع سبابته ووسطاه وهما تمسكان بالسيجارة والكأس في حركة معقدة، يشير في اتجاه الوزير، يخاطبه بهدوء.
– أسي (عبد اللطيف) بغيت نقول لك واحد الكلمة، فقط كلمة واحدة.
بسرعة، انبرى له الحراس يريدون إسكاته.
– اسكت لامك…
– اسكت يا ولد…
وبسرعة أيضا انتهز الوزير الفرصة، أراد أن يبدو شخصا ديمقراطيا، رجلا متواضعا، منصتا، ومحبا للحوار، رفع يده، أشار في حركة آمرة، وتراجع الحراس.
– اتركوه يتكلم، تكلم يا ولدي، قل ما عندك، أنا أسمع.
ابتسم الرجل بخبث، امتص نفسا عميقا من سيجارته، وبنفس الحركات السينمائية، حرر الدخان، أرسله بعيدا، رفع سبابته وإبهامه مرة أخرى في اتجاه الوزير، أشار إليه وقال.
– شوف أسي الوزير، أتظن أننا أغبياء؟ نحن نعرفك جيدا، أنت لص، غشاش وفاسد، لقد كنت تغتصبنا لمدة تفوق عشر سنوات، لذلك أرجوك، دعنا نفعل بك ذلك مرة واحدة…إنه دورنا لكي تتحقق العدالة.

مقالات من نفس القسم