يبعثون بنا إلى الحرب فنضئ كالشمس في ملكوت أبينا

أشرف الصباغ
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

أشرف الصباغ

(1)

لا أحب الحرب ولا أحب من يحبها. ليس لي أصدقاء محاربين ولا أصدقاء حاربوا أو يحاربون أو سيحاربون. وليس لي أصدقاء ماتوا في الحرب. كل أصدقائي مدمنون، وكلهم ماتوا بفعل الإدمان. منهم من أدمن الحب، ومنهم من أدمن “الوطن”، ومنهم من أدمن الصدق، ومنهم من أدمن الحشيش، ومنهم من أدمن الكحول، ومنهم من أدمن الحياة، ومنهم من أدن حارته وأبواب بيته ونوافذه وشقوق الأرض. كلهم كانوا صغارا، منهم من بقي صغيرا إلى الأبد، ومنهم من شاب وظل صغيرا يغري الحياة بالحب، ويحتويها بالحنان، وإذا خذلته، يدمنها وينضم إلى قائمة أصدقائي.

لي صديق واحد فقط مات بالخطأ. مات في الحرب. كانت حربا من تلك التي يدمنها الأفاقون الذين يتاجرون بالجثث وبالنفوس الميتة. خدعوه وقالوا إنها حرب البقاء والمصير والوجود. ذهب صاحبي ولم يعد. لو كان يعرف أن زوجته وأولاده سيتشردون من بعده، لفكر في أمر الذهاب إلى الحرب. ولكن مّنْ الذي يستطيع أن يرفض أوامر الكهنة والقتلة والعسس وكارهي الحياة!

قالوا لصاحبي قبل أن يرسلوه إلى الحرب، إنها من أجل المستقبل، ومن أجل حياة أولاده، ومن أجل الوطن. كان المحاربون يموتون ويبقى أولئك الذين يحولون جثثهم إلى أموال، وأرواحهم إلى سلطة ونفوذ وأملاك، وأبناءهم إلى عبيد وخّدّم. المحارب، يحارب فقط، ثم يموت أو يعود ناقص الجسد والروح، أو فاقد الثقة والأمن والحلم. بينما يعيش تجار الحروب ومصاصو الدماء وينامون ملئ أجفانهم هم وأولادهم وأقاربهم وحاشياتهم. أ لم يقولوا إن “الحرب تكون دوما بين جنود لا يعرفون بعضهم لصالح أطراف تعرف بعضها”؟!

كل الحروب التي أخذونا من أجلها لم تكن حروبنا، ولا حروب أبنائنا. كانت حروبهم ومصدر رزقهم، وسر قُوَّتهم ونفوذهم وثرائهم. كل الحروب كانت تنتهي بقبور كثيرة وأحذية مليئة بالدماء، ودموع أطفال ونساء، وأمهات يبكين حتى العمى وينتظرن رائحة قمصان أولادهن. وكنتُ أنا، رغم كراهيتي للحرب، أزور المقابر وأجمع الأحذية وأكفكف الدموع. وكانت تطربني فكرة الموتى الذين هربوا من الحرب وسكنوا المقابر إلى أبد الآبدين، أو أولئك الذين تركوا أحذيتهم الدامية كشاهد على غياب الجسد.

أحب أصدقائي الذين أُخِذوا، عنوة أو خدعة أو على حين غرة، للحرب ولم يعودوا. أحبهم لأنهم كانوا صادقين ومؤمنين رغم علمهم بأن أجسادهم ستتحول إلى أموال وسلطة ومناصب وأملاك، وأن أولادهم سيسألون كسرة خبز، وربما باتت زوجاتهم بين أحضان أحد أولئك الذين أرسلوهم إلى الموت، لكي تطعم الصغار، أو تتوه وتفقد الطريق وتضيع من أخيها الصغير الذي ينظر من بين شقوق الجدران والأبواب ويقرأ الطالع…

(2)

سأقول لك سرا. أنا لستُ مؤمنا بأي شيء ولا بأي أحد. كل ما هنالك أنني كثيرا ما أحب الناس بدون سبب ولا أتورع عن الاعتراف بحبي للجميع، وللنساء عموما، ولبعض اللاتي يرقن لي في وحدتي وتأملي وصلاتي بشكل خاص.

ليس سرا أنني أصلي مع أصدقائي البوذيين والسيخ والمسلمين بأنواعهم والمسيحيين بأنواعهم واليهود بكل أشكالهم ومللهم والصابئة والكفار بكل أطيافهم وخفة ظلهم. أنا أحب الصلاة وحالات الورع والتقوى والنظر مباشرة في عيني الله وتبادل ابتسامات ذات مغزى معه والشد على يده بود، وربما تبادل بعض النكات والقبلات…

أحبُ الكذابين بشرط أن يكونوا خفيفي الظل، وأشد على أيدي النصابين بشرط أن يكونوا أذكياء يرتدون ملابس فاخرة. وأعشق اللصوص الذين يسرقون الحكومات والدول والأثرياء ويلعنون ديك أبيهم جميعا.

ما أجمل الفارين من المدارس والكتاتيب والجامعات والسجون والديانات والمستشفيات ومصحات الأمراض العقلية والنفسية. ما أروع الهاربات من البيت والأسرة والزوج والأبناء والعادات والتقاليد والأمثال الشعبية والنكات البذيئة وأفلام البورنو.

توفيق هو الوحيد الذي خيَّب أملي عندما زارني في المنام ورأيته يحفر قبره بيديه وراء بيت خالتي بحارة اليهود. وكانت خالتي تحديدا هي التي عثرت عليه في أول شارع الموسكي تحت عربة يد خشبية محملة بالبطاطين فأعطته لأمي كي ترضعه معي ومع أختي التي هي ابنتها.

أخي توفيق وابن أمي وخالتي وعربة اليد الخشبية في أول شارع الموسكي تركنا بعد التخرج من الجامعة وراح سيناء ليعيش في رحاب محبوبته سانت كاترين باحثا عن المكان الذي أقام فيه دوستويفسكي عندما جاء خاطبا ودها وهائما بحبها. وقبل أن يعود بأيام قليلة رأيته في المنام يحفر قبره خلف بيت خالتي. ولما حكيت منامي لكزتني خالتي، وقالت أمي، “ابق غطي طيزك يا حيلة أمك”… وقالت قاصدة: “أخوك توفيق حي يرزق”..

قبل أن يعود أخي توفيق وابن أمي وخالتي وعربة اليد الخشبية في أول الموسكي وجعني قلبي قليلا ونزت عيناي دموعا مثل النهر وتذكرت صبانا ولبن أمنا الدافئ وصدر خالتنا الحنون الذي يحلِّق بنا كبساط الريح. تذكرته عندما تعاركنا ومزقنا ثيابنا وضحك أبي شامتا عندما عاقبتنا أمنا ثم حممتنا في الطشت الكبير وطرطشنا المياه حتى كدنا نغرق جيراننا وكل حارتنا..

في المرة الأخيرة التي رأيت فيها أخي توفيق وابن أمي وخالتي وعربة اليد الخشبية في أول الموسكي، كان يبتسم كنبي، ويضحك حتى تميل رأسه كما كانت تميل على صدر أمي في عهد الصبا وهو الذي يصغرني بعام أو أقل ويكبرني نورا وضياء وألقا…

في المرة الأخيرة كانت خالتي تحفر، في الحلم، قبر أخي توفيق بيديها، وهو ابنها وابن أمي وعربة اليد الخشبية في أول الموسكي، وترتل “حينئذ يضيء الأبرار كالشمس في ملكوت أبيهم”. وكانت أمي تبكي وتبتسم في آن معا وكأن الله تعامد في الأفق فأحيا قلوبنا فانتظمنا فصعدنا نحو الفردوس الأعلى في صف طويل يرقص حول المجرة حتى طال عنان السماء…

(3)

لا أحد يختار حارته ولا أحد يختار أبويه وإخوته وخالاته وعماته وأعمامه وأخواله. يقولون إن المكان هو الذي يختار صاحبه إذا كان مباركا. عُمْرُ المكان ليس أبدا بالسنين وإنما بالذين عاشوا فيه والذين مروا عليه، وأولئك الذين رحلوا وتركوا أرواحهم فيه، والذين احتموا به من برد الشتاء ومن حرارة الصيف وداروا في أركانه يبحثون عن شيء أو فكرة ومرروا أكفهم على شقوق جدرانه ليحصوا السنين وأسماء الراحلين أو نظروا من خلف نوافذه وفتحوا أبوابه صباحا من أجل دخول الشمس.

لم أختر حارتي. فتحتُ عيني فوجدتُ سور المعبد والولد الذي يكبرني بعام أو أقل وقالوا لي إنه أخي، وثدي أمي الناعم بلبنه الدافئ، وصدر خالتي الحنون الذي كان يتسع لي ولأخي ولأختنا الصغيرة الملعونة صديقة الفراشات والندى والمرايا. صدر خالتي كان يحملنا مثل بساط الريح نحو الأحلام والحكايات وتاريخ الرسوم المحفورة على باب المعبد ونوافذه. وثدي أمي كان يحمل إلينا الفاكهة والأعناب والشبع والدفء والقبلات التي تحمل إلينا السكينة وملائكة النوم.

حارتنا لها روح تستيقظ عند الفجر، تحلق أعلى شارع الخرنفش وتدور على البيوت والدروب والأزقة تباركها وتأخذ بيد العجائز وتبشر الأطفال وتصل إلينا ضاحكة ومتعبة قليلا فترتاح عند مدخل معبد سيدنا موسى بن ميمون. تهشنا خالتنا كأفراخ فراشات دب النبض فيها للتو فنمد أصابعنا الصغيرة وأبوازنا المضحكة فتكركر روح حارتنا وترقص فوق المعبد..

أختي مغرمة بالفراشات والنظر من بين شقوق الجدران ومطاردة الأشباح التي تزورنا يوميا. أخي الذي يطيل النظر نحوي وكأنه يراقبني، ينهضني إذا تعثرت ويأخذ بيدي إذا وقعت ويعلمنا الرقص والحنجلة وحفر أسامينا على باب المعبد.

لا أحب العدس ولا البصارة وأخاف الأرانب حية ومذبوحة ومقلية. تضحك خالتي وتضمني إلى صدرها الواسع. تلقمني قطعة حلوى وتسألني: “تحبني يا توفيق؟” فأتلعثم وأدفن رأسي في صدرها. تنظر إليها أمي عاتبة وتضم أخي وأختي وتمنحهما قبسا من نورها وبعضا من لبنها وقطعة باردة من سد الحنك..

ماتت خالتي بالأمس. عرفت أن أختي هي ابنتها، وأخي هو ابن أمي، وأنا الذي عثروا عليه تحت عربة اليد الخشبية في أول شارع الموسكي وأرضعوني لبنهم وعسلهم وحنانهم وأركبوني بساط الريح. أنا توفيق الذي حلم أخي ابن أمي أنني أحفر قبري بيدي فخيب موت خالتي ظنه وحفرتُ أنا قبرَها مع أبي وابنتها التي كانت أختي منذ قليل.

دفنوا خالتي خلف جدار بيتها في درب محمود. نظروا نحوي وتهامسوا فبكيتُ وأبكيتُ أمي وأخي وأختي والواقفين والمصلين والقارئين والراحلين والآتين والأشباح والأرواح التي تزورنا، وروح حارتنا فوق المعبد، والشقوق في الجدران. ظللنا نبكي حتى فطمتنا أمنا فأرسلتْ أخي إلى المدرسة واحتفظتْ بي إلى حين، بينما ظلتْ أختي تنظر من بين الشقوق تراقب ما وراءها وتقف أمام المرآة تقلد أمي وتضحك مثل خالتي التي هي أمها..

أنا توفيق الذي عثروا عليه تحت عربة يد خشبية في أول شارع الموسكي، يبكي الآن مثلما كان يبكي حين امتدت يد الخالة لترفعه وتدفسه كقطعة ماس في صدرها، تخبئه من عيون المارة والمتلصصين والعسس. استيقظتُ فوجدت نفسي وحيدا بدون أخي وأختي أبناء أمي وخالتي. رحتُ أتسلى وأقلد أخي، أمسك سيفا خشبيا أحمي به الصغار وأبارز به طواحين الهواء. أنظر في شقوق الجدران والأبواب مثل أختي وأحصي الأشباح والأحلام والطيور والورود وصوت الصمت وأرى الطالع..

فطمتنا أمنا للمرة الأخيرة فأخذوا أخي إلى الحرب ولما لم يعد جاؤا فأخذوني. ظلت أختي جالسة وراء باب المعبد حتى أعادوا أخي فدفنته بيدها إلى جوار خالتي وبللت ثراه بدموع مثل النهر. ولما رحتُ وغبتُ صاحت أمي في الحلم، أن ائتوني به وخذوا نور عيني. فراح نور عينها ولم يأتها أحدٌ برائحة قميصي..

دفنتها أختي إلى جوار أخي. وخرج أبي إلى الجمالية متوجها نحو السيدة زينب وسار نحو المنيل حتى وصل إلى البحر الكبير. قالوا إنهم رأوه آخر مرة واقفا فوق سور الكوبري يبكي حتى فاض النهر وهاج الطوفان فابتلع كل شيء.

عدتُ ناقصا جسدا وعقلا من حرب لم تكن حربي فلم أجد إلا مقبرة وأشباح وفراشات تبكي. جبانتنا الصغيرة خلف بيت خالتي في حارتنا التي لم نخترها ولم نفارقها ولن نفارقها لم تتسع لأختي التي كانت ابنة خالتي. قالوا إنها نزحت نحو الدرب الأحمر وسكنت إلى جوار جامع فاطمة النبوية.

قلتُ يا رب خذ نور عيني وائتني بابنة خالتي التي هي أختي وقطعة مني وأمي التي علمتني النظر من خلف الشقوق وقراءة الطالع والتحليق على صدر خالتي التي هي أمها. يا رب، لم يعد لي لا صدر ولا ثدي ولا كف ولا عين ولا روح، وحارتنا تاهت منها روحها فلم تجد من يدفنها، وأختي التي هي ابنة خالتي تخايلني فخذ نور عيني وأسكن روحها في جسدي..

مقالات من نفس القسم

موقع الكتابة الثقافي uncategorized 12
تراب الحكايات
عبد الرحمن أقريش

المجنون