“النوارس” لمحمد جبريل.. رواية في محبة الإسكندرية

النوارس محمد جبريل
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

د. رضا صالح

فى 228 صفحة من القطع المتوسط يبحر بنا الروائي الكبير محمد جبريل فى رواية باذخة الحب، شديدة الانتماء، رائعة التعبير عن المكان وما يجري فيه؛ أعتقد، بل وأكاد أجزم أنه لا يستطيع ان يكتبها سوي من عايش المكان والزمان واندمج في محيط  الرواية وشخصياتها.

اسكندرية؛ حي بحري؛ الأنفوشي؛ المينا الشرقي؛ مقاهي وشوارع وأزقة بحري، مساجد أولياء الله والصالحين، أبو العباس المرسي والأباصيرى: “ومضت في ذهنه مشاهد لقهوة فاروق، مرسي القوارب، ورش القزق، التقاء شارعي إسماعيل صبري والتتويج، مقام سيدي العدوي، حديقة راس التين، دوران الترام في نهاية الخط، ميدان الأئمة، قهوة الصيادين، قهوة أنّح؛ مئذنة أبي العباس من انحناءة الشاطئ ، تعالي الإنشاد من صحن البوصيري… “ص81

وفي موقف حب للمدينة يقول: “هو يحب الإسكندرية، لا يتصور عيشه في مدينة أخري، الظروف القاسية وحدها تدفعه إلى الهجرة، يحب أمه والشيخ حفظي، وبحري، والمساجد، والأضرحة، والمقامات، والموالد وحلقات الذكر، وأهازيج السحر، وأدعية الفجر، والأحجبة والرقي والعزائم والاعشاب، والباعة والقهاوي، والنداءات وحلقات الذكر حول البوصيري، ودروس المغرب في ياقوت العرش، والائتناس بمقام سيدي كظمان، والجلوس في قهوة الزردوني، رفع الأذان من مئذنة ابي العباس، صيد العصاري في المينا الشرقية، والجرافة علي ساحل الأنفوشي، ورفيف أجنحة النوارس يضرب الموج الساكن، وألوان قزح في نهاية الافق..”. ص 106،105.

الأسماء العجيبة والمناسبة للشخصيات والتي تكون جزءاً من الواقع، أسماء شخصيات لا يستطيع ان يسميها سوي الكاتب الذي عايش الزمان والمكان وعبّر بدقة متناهية عنهما، هؤلاء النساك والعباد الذين طلقوا الدنيا وعاشوا مع الله، حياتهم في الأذكار والأوراد والحفاظ علي الصلاة والقرب من الأولياء الصالحين، روايح سوق السمك وأنواع وطرق الصيد بالسنار والجرافة وغيرها، سوق السمك وذبح الترسة وشرب دمائها، أصناف السمك المتوفر في البحر الابيض، أنواع المراكب والبلانسات، نتذكر ونحن نقرأ الرواية، وهي تعبر بامتياز عن المكان، نتذكر أن المحلية ربما تكون إرهاصة و طريقا للعالمية ،كما قيل عن كتاب آخرين، نتذكر أشهرهم عندنا نجيب محفوظ؛ الذي كانت المحلية طريقه الي العالمية..

سيمفونية حب، نوستالجيا ينطق بها قلب البطل أثناء استعداده للهجرة و الفراق مع زملاء السفر على البلانس.

تنغلق أبواب الرزق في عيني البطل المحب الولهان الذي لم يكن أمامه إلا أن يكوّن نفسه، وكما سافر آخرون قبله وتعرضوا للمخاطر، لم يجد أمامه إلا السفر أيضا ليستطيع الزواج من حبيبته التي عاش زمنا يحلم بالقرب منها؛ لا يوافق والدها على تزويجها له إلا بعد أن يكون قادرا ماديا على الإنفاق.

***

نعيش مع الهجرة غير الشرعية والتي انتشرت زمنا، وكانت نكتة سوداء في جبين الوطن، كنا نسمع ونقرأ ببن حين وآخر عن مراكب تحمل أعدادا من البشر بطريقة غير شرعية و غير آدمية فوق سطحها، يتعرضون لشتي المخاطر، مراكب تغرق بركابها فى عرض البحر؛و أخرى  يقبض علي من فيها قبيل وصولهم إلى اليابسة حيث يلقى بهم البحر.

أهوال البحر تثير تيار الوعى عند شخصيات محمد جبريل الذين يصارعون الموت والأمواج وأعطال البلانس والخوف من تقلبات الجو والخوف من القبض عليهم وإيداعهم السجون فى حالة وصولهم سالمين؛ كل هذه المشاهد تراها جلية واضحة بالتفصيل على صفحات الرواية الأنيقة التى تذكرنى برواية موبى ديك لملفيل؛ أو رواية الشيخ والبحر لهيمنجواى؛ يدفع البطل الماء بيديه وساقيه؛ يحاول أن يرتفع فوق الامواج الهادرة؛ بالرغم من أنه لايجيد السباحة؛ إلا أن روح المقاومة والتشبث بالحياة مازالت تسرى فيه؛ يحاول النجاة بشتى الطرق؛ بهذه المقاومة؛ تنتهى أحداث الرواية لكى تبقى نهاية شيه مفتوحة تعطى للقارىء مساحة من الخيال والمشاركة؛ يفكر القارئ فى النجاة؛ نجاة البطل وزملائه؛ يتخيل غرقهم جميعا أو القبض عليهم وإيداعهم السجون؛ كل هذه الاحتمالات قائمة؛ ولكن تبقى روح المقاومة؛ مقاومة الفقر والغرق؛ مقاومة الأوضاع السيئة التى مرت بها البلاد والعباد؛ تبقى قائمة لتشهد على قيمة الحياة وحب الحياة والتمسك يها.

 

مقالات من نفس القسم