هل لكل شيء رائحة تميزه؟ “رسائل سبتمبر/ رائحة مولانا” ما بين حب وسلطة وثأر

موقع الكتابة الثقافي
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

  دعاء فتوح

 في مكان ما بين القلب والعقل، هناك خطٌ ستستقيم فيه التجربة بما يساوي القدرة على التتبع.. فبعض المفاتيح ألقاها الروائي "أحمد عبد المنعم رمضان" أمامنا؛ لفهم خصائص روائح عدة، تُكوّن رائحة السلطة وأبعادها، عبر دراسة مكثفة جادة، ترسم بناءً متماسكا لملامح الشخصية المصرية، الحاكمة والمحكومة في روايته الأولى "رائحة مولانا" ـ 114 صفحة انتهى -كما أشار- من كتابتها عام 2010، صدرت عن الهيئة المصرية العامة للكتاب 2012.

 

 ووضع مفاتيح أكثر تعمقا لربط الروائح الأولى الممتزجة والمتداخلة بين “الحب”، وما يرمز إليه كعامل مشترك تحتاجه كل الأطراف. وما يرمز إليه –في رأيي- هو حجر أساس تتجمع بتباين حوله السلطة وما تحتها من سلطات أصغر وما تمثله من طبقات اجتماعية محكومة في روايته “رسائل سبتمبر” المكثفة أيضا في 108 صفحة، انتهي من كتابتها عام 2015، صدرت عن “دار توبقال” المغربية  للنشر 2017.

 “رائحة مولانا/ رسائل سبتمبر” القاعدة الرابعة: التوقيت

 توقيت الشروع في كتابة رواية تبحث في أصل علاقة الشخصية المصرية بالسلطة قبل عام واحد من ثورة “يناير” يثقل التجربة ويجعلها أصيلة لا تبحث كغيرها عن الظهور وسط حدث لافت، للفت الأنظار لها. الأمر يتخطى أساليب استسهال حديثة في اقتناص معلومات وأفكار متناثرة على صفحات التواصل الاجتماعي، إلى همّ شخصي يشرّح الرؤية الذاتية للحاكم وكيفية تقاطعها مع الرؤية الاجتماعية له من قبل المحكوم.

وكل تلك الأفكار والمعارف الذاتية للكاتب تتداخل بأدواته المتمكنة في غزل نسيج درامي لا يخلو من مباشرة غير متكلفة يحتاجها. وما يثير الأعجاب حقا هو رقة تتسلل إلى نفسك وأنت تراقب نصف وجه “مولانا” الإنساني المحب لـ”مريم”، وفي خلفية صفاء المشهد الحلو يقتل بالخطأ “الهواري” ـ يد مولانا الباطشة ـ “فاطمة” والدة “حامد القطان”. كل ما تبقى  له من عزوة وأهل.

 أما توقيت كتابة “رسائل سبتمبر” الذي جاء بعد الثورة بعامين لم يتورط كغيره بفرض أحكام مجانية على اي فصيل من الفصائل السياسية المتناحرة. خرج بهدوء من كل هذا لأن هناك مشروع قديم في الرصد يتطور عند الكاتب، فهو معني حقا بالإنسان المصري وتطور مفاهيمه. ولا تخلو أدواته أبدا من رقة تعيننا على الفجاجة وصعوبة التعايش مع الأقنعة الزائفة لمن كان حيا ووجه لازال ملتصق به.

يترقرق حب “زياد الشافعي” ـ الإعلامي لـ”ليلى السحار”. ولكن الحب وحده لا يكفي لشفائها من السرطان الناهش لجسدها.

أحب الإعلامي فجأة وسط علاقته العابرة وقلبه الفارغ “ليلى” فماذا يفعل لإنقاذها؟

  مريم وليلي وفاطمة.. رموز بين الحرية وحدود الوطن

 بعض العلاقات والتساؤلات الملحة من الكاتب خاصة في “رسائل سبتمبر” لم أستطع فهم أبعاها إلا في ضوء التأويل:

“مريم/ليلى/فاطمة” هل هن “الوطن” الضيق بأراضيه وحدوده الجغرافية المعروفة، أم أنهن شيء آخر، رحب وملتصق بتكويننا الذاتي نتشوه بفقده؟

“الحرية” تبدو فكرة خلابة تجيب على أدق التساؤلات، وتزيل أي إلغاز أو شعور بكسر إيقاع الحدث المشار إليه من الكاتب –في رأيي-

هي حب “مريم” لـ”مولانا”، وهل تكره الحرية السلطة؟

“الحرية/مريم” ابنة عقيدة تعرف الحق -الشيخ “عبد العال”- حق لا يستطيع احتماله “مولانا”، لهذا رغم عشقه لـ”مريم” يقتل أباها ببشاعة. فتهرب إلى الأبد آخذة معها نصفه الإنساني، تاركة إياه بنصف محروق مشوه وحيد يتعذب.

الحرية هي “فاطمة”. أمٌ محبة معطائة حتى ولو كانت خاصة جدا، لا يعرفها أو يدرك قيمتها غير “حامد” ابنها الوحيد. فما حالة حامد إذا قَتلت بخطأ سلطة “مولانا” التنفيذية–الهوراي- سلطة ترتع بلا قانون يضبطها.

الحرية هي “ليلى” حبيبة “زياد”، وهل يكون للإعلام معنى دون حريته؟

ولكنه إعلامٌ تعود على ارتداء أقنعة باسمة زائفة. كان يعيش على علاقات عابرة وفي لحظة ما –الثورة- أدرك حاجته لـ”ليلى” ولكنّها مريضة، وتصرفاته إزاء مرضها تناسب شخصيته المتكونة منذ سنوات طويلة. يكتفي بصحبتها والوقوف على باب الطبيب بلا سؤال حقيقي فاعل عن حقيقة مرضها والاستماتة في سبيل شفائها. وكأن جواب صديقه “اليساري” بأنها حالة ميئوس منها كان مخرجه ليهرب. ولكن كيف يهرب؟

يؤجر قاتلاً مأجورًا “منصور الحربي”، من هو منصور الحربي ولماذا جاءت سماته غامضة كمصيره وقدراته غير العادية؟

الوجه الآخر لقوة الإعلام هو عقلية جمعية للتلقي تميت ما يشاء وتحيي ما يشاء من أفكار. عقلية تدرك آثار ملاك الموت، ويمكنها أن تكون أحد أياديه الخفية لقتل “ليلى” أوغيرها. لكن كان لعزرائيل رأي آخر.

 رسائل سبتمبر المدهشة

 فكرة “رسائل سبتمبر” مدهشة بذاتها ولا يتعمد الكاتب إدهاشك، ويمكنك تتبع الآثار والتأويل والفهم والاشتباك مع ما تفهم لمرات لا حصر لها.

ملاك الموت يبعث برسائله قبل يومين من موتك. ينبهك بأدب وبرائحة نفاذة أنك انتهيت. فكيف يمكنك توديع حياتك؟

يمكنك توديعها مثل “إسماعيل الفايد” مرشح الرئاسة الذي لا يعرف عنها غير خطب “هتلر” المتوقدة بحماسة يستشفها ولا يفهم لغتها. فتموت في سريرك وفي يدك مسدس مبلل بخوفك.

ويمكنك توديعها مثل “عمرو الراوي” ضابط جيش متقاعد، وممثل محدود الموهبة يودع حياته بآخر دور سيؤديه خلف الكاميرا في برنامج حواري سيعيده إلى قلب الأحداث لمرة أخيرة.

وربما تودعها مثل “جوزيف نسيم”، معد تليفزيوني، شارك في مظاهرات أحداث ماسبيرو بصفته قبطي يعترض على هدم كنيسة أسوان، يجلس في غرفته معاتبا للموت، يبحث عن صورة مناسبة لبطاقة توديعه.

سيمفونية إزعاج

 “أصوات الكلاكسات تعزف سيمفونية مزعجة، تقطع الطريق بعض التكاتك المسرعة في حركة أشبه بالبراغيث، تمتزج الكلاكسات بموسيقى المهرجانات الصاخبة المنطلقة من قلب تلك البراغيث، الفوضى تعيد رسم اللوحة السيريالية اليومية، وفي وسط هذا الزحام يبحث زياد عن مكان لسيارته. زجاج سيارته مغلق وداكن، يمنع عنه الضوضاء ويوقف نظرات المارة والمتطفلين، الهواء مكيف، البرنامج الموسيقى يذيع مجموعة من أغانى السوفت جاز لـ”ليليان بوتيه”، لا تتسرب إلى مسامعه السيمفونية الفوضوية، ولكنه يشارك في عزفها ببعض الكلاكسات مضيفا إلى صخبها صخباً”.

مقطعٌ صغيرٌ يتضافر مع مقاطع أخرى تتفرق وسط الأحداث المتشابكة لأبطال رواياتيّه بانسيابية تساعدك بلا صخبٍ على رصد تغيرات اجتماعية وفكرية ونفسية للشخصية المصرية ولعلاقتها بسلطات متنوعة تحتاج إلى الانتباه لها. 

“أحمد عبد المنعم رمضان” كاتب واعٍ يتميز ما كتبه بأصالة بحث وحرص على تطوير أدواته ورؤيته لما حوله من تغيرات إنسانية بلغة متمكنة وخيال مدهش خصب يعين على التأويل لمن يحب التأويل والافتراض، كما يعين على الاستمتاع بخط درامي واضح الملامح والأبعاد لعوالمه المختارة.

 

 

مقالات من نفس القسم