البحث عن الشعر في التفاصيل الصغيرة للحياة المعاصرة

موقع الكتابة الثقافي uncategorized 29
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

ربا الحايك

بشيء من العزلة والتأمل نطالع في كتاب أحمد يماني «وردات في الرأس» تلك التغيرات التي تمس كلا من المجتمع والانسان وتبحث في هذا الشرخ الاجتماعي الكبير بما يتضمنه من معان وجدانية روحانية.

 «وردات في الرأس» مجموعة نصوص تنتمي الى الحداثة الشعرية تضمها دفتا الكتاب، وفيما يقارب مائة وخمس صفحات والصادرة عن دار ميريت للنشر والمعلومات يبدأها يماني بإهداء إلى «ستيلا» والتي يعبر فيها عن الموت ليس بمعناه الحقيقي بل الموت الداخلي الذي يتلاشى ومع تلاشيه يتضخم وينفجر ويحاول، حتى نتابع حديثه ووجدانياته عن الحب تمتلئ بالعواطف المشتعلة شوقا وحنينا ومودة يرمز اليها شاعرنا بالكثير من المفردات لينتقل معها الى الفضاء ويعود بحركة عكسية باتجاهه نحو الداخل يقول أحمد يماني:

العاصفة

ستحمل ذرة في رفاتي

خرجت مسرعة عند فتح الباب

لتستقر في أصيص نبات الظل

النائم سعيداً

بجانب سريرك

والشاعر في هذه المجموعة يبتعد في مواضع كثيرة عن المجاز اللغوي الكثيف لينقلنا الى تفاصيل دقيقة في حياتنا فنشعر أننا نحيا الواقع الحالي على صفحات بكل تفاصيله في حديثنا اليومي، في مطالعتنا للصحف، في فنجان القهوة، في مشاهد التلفاز الحربية.

وفي هذه التفاصيل يجد الشاعر مبتغاه ومنه يستلهم موضوعاته ليشعر معها بالحرية المطلقة ولنشعر نحن أننا نقرأ ذاكرة الشاعر ونغوص إلى أغوارها من خلال حديثه عن أشياء نعرفها تماما ونعيشها وربما مرت علينا وما نعنيه هنا لا يتعلق بقصيدة واحدة من نصوص المجموعة بل نكتشف أن معظم نصوصه من «حفلة الاستقبال» الى «الايام الخوالي» الى «دقيقة حداد» حتى الليل وغيرها من النصوص التي تسخر وتتحدى الواقع وتطلق النداء الإنساني في وجه العالم، فالانسان أصبح يتعايش لا يعيش

يقول في نصه “حفلة الاستقبال:

في الثامنة صباحا

كانوا أخبروه باستغنائهم عنه

في التاسعة غادر المبنى

بعدما وقَّع آخر ورقة

ولأنه أحب التقاط مادته من اليومي والشخصي والعادي ويبدو أن الشخصية الداخلية للشاعر تملكته بأفراحها وأحزانها بصورها ورفاق العمر والحضن الدافئ للأم والجدة وتلك الحياة البسيطة في تفاصيلها والتي لا تحمل التعقيدات الحياتية الحالية.

فها هو «اليماني» يقدم ذاكرته ونصوصه هدية الى أكثر من شخص وفي أكثر من موضع في مجموعته هذه وإذا ذكرنا آنفا إهداءه الأول نذكر هنا إهداءه الى بشير السباعي «الكلمات المناسبة أحيانا» وإهداءه إلى مجدي الجابري «وردة في ثلاجة» والى عادل السيوي «درس اللغة الاسبانية» والتي تشترك جميعها في الجمل السردية القصيرة والمفتوحة حتى نشعر برغبته في تغيير الحياة لذلك نشعر عن بحثه عن خلاص الذات القلقة والحائرة التي تتعرض لتقلبات الشعور الحادة ومن قصيدته «الكلمات المناسبة أحيانا» نقتطف قوله:

أحيانا يتمدد الولد حتى يجاوز الأم

ويده على كتفها

قد يبكي في الصورة أو بعدها

في الصباح أو في الليل

يفتح فمه

وحين يتحدث عن الموت عن هذا الشعور الغريب الذي يزرعه في دواخلنا ومنه تفوح المرارة الشديدة في حنين دائم الى التواصل مع الكون والواقع ومع الآخرين يتحدث يماني عن الموت عن تلك الوردة التي ذهبت الى الثلاجة يقول:

المياه تهبط من الوردة

الوردة تنام ثانية

وهذه المرة دون أحلام

وبذلك نجده أقرب الى القلق الوجودي المرتبط بالحالة الإنسانية في تفاصيلها الصغيرة وشجنها الذي يرتوي من الحياة المتدفقة في بساطتها وتعقيدها، في أحلامها الوردية وكوابيسها السوداء  ونجده هنا غير عابئ بالكليات بل إنه حتى لا يهتم بالافكار الكبرى يقول:

كثيرون انفجرت أمعاؤهم قبل أن يصلوا

وقفوا على التلتوار

تهشمت جماجمهم

وخرجت دماء تحب الأرض كثيرا أن تشربها

الأرض ليست سيئة تماما

لكنها عطشانة يا صديقي

وهكذا فإن نصوص أحمد يماني لا تنبض بالرفض للواقع الاجتماعي وهو يقدم تفاصيله الكاملة فقط ولم يرفض تلك الورود التي تزهر ألما في الحنايا فقط بل إننا نشعر برفضه للثقافة السائدة وفي مجموعته «وردات في الرأس» نراه يستخدم السرد بتمكن عال، يغزو من خلاله مجتمع الصورة الذي نعيشه، فالسرد عنده يشبه سردا لقصة يحلل فيها مختلف الجوانب ويقدم تصويرا واضح المعالم وهذا ما فعله في الصفحة 81، حيث قدم مقطعا نثريا أشبه بقصة قصيرة.

هناك في السجن يجد يماني رائحة مفعمة بالأمل والصمود والتحدي، فذلك الرجل القابع في زنزانته لا يمكن له أن ينسى الحقل ولا كيف يعانق المرأة ولا يفتأ يفكر كيف يصنع حياة جديدة في زنزانته ورغم أن الحلم يتلاشى شيئا فشيئا وبرغم أن البيت يصغر، وبرغم انحناء الجسد وصل يماني الى استنتاج مفاده «أن القامة لا تنحني أبدا».

وإكمالا لسخطه على واقع يراه شيئا ومتابعة في محاولة إصابة الاشكاليات التي يرفضها في المجتمع يسعى في نصه «الليل» شعاع ضياء ينطلق محاولا تبديد ظلمة تلك الافكار القروية المتلبدة في صدور الناس والتي لا تستطيع التحرك نحو الوعي الاجتماعي، فقريته التي تشبه معظم قرى وطننا العربي النائية تنام في الثامنة مساء، وترشف سعادتها من حكايا الانتقام والأخذ بالثأر وتعيش الحروب لقاء حفنة من المال.

وهو هنا وإن كان لا يتحدث عن حلول كبرى لأزمات الإنسان ورغم أنه بدأ من أصغر التفاصيل الجزئية بلغة حسية واقعية تقص عبر نص حداثوي أوضاعا اقتصادية واجتماعية وثقافية ليفجر ذلك الحزن الساكن في أعماقه يقول:

كنت أربت على كتفي بكلمات من قبل

ماتوا يا قلبي

دون أن يعرفوا شساعتك

دون أن يخلعوا أحذيتهم ويستريحوا قليلا (ص78)

«وردات في الرأس» نصوص شعرية حداثوية حاول الشاعر يماني عبرها هدم كافة تصوراته السابقة جميعها حالما بإذابة التفاصيل الدقيقة في تجربة حسية عارمة، أجاد الوصف والتحليل، عرف كيف يمكنه أن يضحك من خلال نافذة حزن تهوي عليه فاستطاع بأسلوبه الوصول الى حافة الحلم.

ـــــــــــــــــ

جريدة الوطن 6-8-2007

عودة إلى الملف

 

مقالات من نفس القسم