المقصلة

hagar mostafa gabr
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

هاجر مصطفى جبر

كل عام يُطلب مقال عن “ألبير كامو”. أحضرت الرف الخاص به من مكتبتي، وجلست في الصالون تاركة المكتب لأحمد ينهي التعديلات الأخيرة في رسالة الماجستير. قرأت رواية الغريب في أربع ساعات، لا في ساعة وسبعٍ وخمسين دقيقة كما حدّدت مجلة الإيكونوميست البريطانية؛ فأنا من أَعَدَّ العشاء والكثير من فناجين القهوة.

بعد عشر صفحات من المقصلة نمت…

أسمع جَرَّة ترباس الباب الحديدي كأني نائمة على السلم. الأقدام المتسارعة في وتيرة مقصودة جعلت درجات السلم الرخامي ترتعد، يُحاكيها جسدي. قبل أن تنتهي الدرجات، يدٌ تطرق باب شقتنا. لا تُحاول كسره.

النظرة نبهتني لثوبي الساقط عند النهد الأيسر. اختفيت خلف الباب…

– “أحمد سعيد علي”.

زوجي!!

كنا نمزح أمس بعدما تم سحب جارنا إلى السجن بسبب قضايا طلاق ونفقة وتبديد ممتلكات الغير.
– “هل ألقى مصيره؟”
– “ربما”.
وضحكنا.

هل أمي الفاعلة؟
تطلب مني تركه دائمًا… قسيمة الزواج وقائمة المنقولات لديها… وتوكيل لدي محاميها…!!!؟

ارتديت ثوبًا لونه كُحليّ، كان فستانًا، لكنه الآن مجرد ثوب.

وصلت قسم الشرطة مع فجر خانق، كأغلب أوقات أغسطس. سألت، فقال أحد الأمناء –الأقل وقاحة–: “الحملة لم تعد”.

حملة!!
زوجي في حملة ضمن محكومين وقضايا… دوار… محاولة للتماسك… ماذا يحدث؟

انتظرت…

عند السابعة صباحًا، وصلت امرأة في ثوب أسود. دقائق وجاءت سيارة “البوكس”، زوجي مقيد ليد شاب بقميص مقطوع الأزرار.

نظرت بها ذاك الشرر الناتج عن احتكاك جفن بالآخر بقسوة كي لا تسقط الدمعات. لمحتُ اشتعالًا بحجر العينين البنية. مرَّ في صمت واختفى خلف باب القسم الحديدي وأُغلق الباب.

هل هو “تشابه أسماء”؟ فهذا يحدث بكثرة… مجرد تشابه يسلبك الطمأنينة ويمنحك صباحًا بوليسيًا متخمًا بالحديد.

ظهر أحد مرتدي ملابس الشرطة، شاربه مخيف، وفي عينيه ذاك الظلام الذي يذكرنا بـ”عشماوي” –المسؤول عن تنفيذ عقوبات الإعدام– وهو يحكي عن كدره إذا عاد للمنزل دون تنفيذ عقوبة الإعدام شنقًا بأحدهم. بدأ الكلام وكأنه يشرح لمجموعة من المتطوعين المستجدين الذين لا نراهم:

– هؤلاء لديهم قضايا وأحكام… بعضهم سيخرج حتى موعد الاستئناف، والبعض سيظل بالداخل.

أخيرًا خصَّنا –أنا والمرأة– بأمر التوجه للمحكمة.

الدوار مستمر، لم أرَ الطريق، أنتبه فقط عند المنعطفات. كأن انتقالي من القسم للمحكمة كان في حركات دائرية متواصلة. مشهد زوجي وهو يهبط من سيارة البوليس كان يجرح عيوني، وشعور بعبث أن يكون تشابها بالأسماء، وبالذنب لو أن أمي خلف هذا…

دوار لا ينتهي…

اضطررت لركن السيارة على مسافة بعد المحكمة، فكلما حاولت تركها، سمعت صرخة الشارب تنهاني: “هذا طريق سيارات الترحيل”!

جميعنا واقفون رغم السقوط الظاهر في العيون. سيارة مصفحة بلا نوافذ، ثلاثة فقط ثقب مربعة لا يتسع أحدها لوجه. لو فكر أحدهم في النظر، عليه أن يختار بين عينيه وأسفل أنفه: النظر أو التنفس. أظنه سيختار أنفه وأسفل الخدين. فما حاجتنا لأن نبصر الحرية وهي تبتعد؟ سيُغمض عينيه ويستنشق، سيترك هواء أغسطس الساخن يلامس أسفل الخدين واللحية، ويتذكر باطن كف امرأة ولمسات الأصابع، وينتبه لرجولته التي تعمّد الحديد سحقها.

الآن سُمح لنا بدخول المحكمة من الباب الخلفي.

في نهاية الممشى “الأخضر!!” قفص حديدي مربع لا يتجاوز المترين، يتكدس به 22 رجلًا. هل لأنهم متشابكو الأيدي ظنوهم 11 فقط؟

مُنعت من الاقتراب، فتراجعت وعيوننا تتشابك. لا أعلم لماذا ارتحت لهذا المنع وطلب الابتعاد…

هاتفت المحامي للمرة الخامسة والعشرين: هل أسأله عن أمي؟ هل أسبه؟ هل أتهمه؟ هل أرجوه؟… لا يرد.

زاد الشك حد اليقين. أتذكر دهشة أحمد عندما سمع أن أمي قتلت ثعبانًا كبيرًا ونحن في المصيف، قال: “أمك قاسية”.

هي هكذا فعلًا… هل…؟ شيء مني ينكر، يرغب في الإنكار.

رجل من ذوي الشوارب الأقل تخويفًا، وبيده دفتر عريض، يتضح من كثرة أوراقه وثقل وزنه أنه مسجل به القضايا من شهر مارس فقط… كل هؤلاء خرجوا على القانون في بضعة أشهر!

أنا وذوو الشوارب لم نخرج بعد… لكن حتى ذوو الشوارب بعضهم فعل!

فالمرأة المحشورة داخل ثوبها الأسود تحثه بتودد أن يبحث جيدًا عن اسم زوجها، فهو “زميل لكم”. نهرها الرجل: “كان”.

بعد ساعات، عندما نعود للقسم وننتظر رجلينا، ستحكي عن زوجها المتطوع بالشرطة، لكنه اختار المال وقرر الاتجار بالسلاح وقوائم المحكومين… قام الأمين بالخيانة!

بينما يبحث صاحب الشارب عن اسم زوجي المعلم في مدارس الفقراء، كان المحامي يصور أوراقًا عند فتاة سمراء بصوت رجولي بدا مخنثًا.

بهجوم غير مبرر إلا لشكوكي، سألته: لماذا لم تأتِ إليّ وقد رآني؟
لم يرَ… أعلم.

بعد اعتذارات –فسرتها اعتذارات عن فعلته بالاتفاق مع أمي– واستمرار نبرات ونظرات أرميها به، أتعمد أن تكون جارحة ومهددة…

– “أحمد سعيد علي… قضية حجز وإهدار مال عام…”

لم يهتم المحامي لتجريحي، أظنه تقبله كاختلال نفسي وقتي. جلست على سلم المحكمة منهكة، أشعر بالخزي مما فعلت، والتساؤل عن المال العام!

لم يكن تشابها…

زوجي… مجرم.

مال عام؟
هل اختلس؟
ماذا يختلس!
مقعدًا من المدرسة؟ أم طبشورًا!!
هل اتفق مع المدير وسرق مرتبات الموظفين؟
لكن المرتبات لم تعد تُسلَّم باليد، بل تودع على البطاقات المصرفية.
هل سرق أموال مصروفات الطلاب؟

هذيان…!!!

أحضر المحامي زجاجات ماء وطعام، وقال: “لقد ذهبت للاطمئنان عليه، هل ترغبين في رؤيته؟”
رفضت.

هل كرهته؟
هل أتركه وأذهب؟ حتمًا لا…

شربت الماء، كانت شفاهي جافة بشكل لم أعشه من قبل. لم يسبق أن خرجت دون مرطب الشفاه.

هل أواجهه؟ ماذا أهدرت؟ لمَ؟ مال عام يا أحمد…

في نهاية الممر، رأيته يجلس القرفصاء أمام أحد المكاتب، مقيدًا مع ذات الشاب. كنت سأقترب لكن أحد الشوارب المخيفة منعني. كان مُتعبًا… مهزومًا.

خرج محامينا من المكتب، وتوجه نحوي:
إيصال لصالح الجمعية الزراعية لم يُسدد.

قدر المال المهدور… تسعة جنيهات وخمسة وسبعون قرشًا!

شيء من الضحك. لأول مرة أرغب في السب علانية… أريد التدخين: “أعطني سيجارة”. لابد من نقل اشتعالي لشيء، فالسجائر لن تتسبب في سجني.

شرطة وسيارة وأغلال وبنزين ورجال وشوارب مخيفة وأوراق ومحامٍ ومحكمة وقاضٍ وزنزانة، ويوم بليلة ننتقل بين المحكمة والقسم، ثم في النهاية تُسدَّد العشرة جنيهات في جلسة استئناف بحضرة المتهم ومحامٍ!

كثير من السب يراود فمي، كثير من الصمت القهري… القانون أعمى.

حمدت الله أن وصول أمي كان بعد معرفة الذنب.

– “جنحة”.
ضحكت وهي تنفخ دخان سيجارها: “إعدام”؟
رد المحامي بجدية مفتعلة كي لا يجرح مشاعري: “الجنحة الوحيدة التي قد تصل للإعدام هي شهادة الزور”.

– “لمَ؟”

سؤال غير متوقع… لكنه أكمل: “إذا تسببت شهادته في إعدام بريء… هل تعلم العدالة أن بعض المشنوقين تظهر براءتهم؟ هل إرسال شاهد الزور للمشنقة يَجْبُر عظام العنق المكسور؟!

أتذكر نظرة الانتصار في عين عشماوي وهو يحكي عن رجل كاد أن يفلت من الإعدام، فضغط على كتفيه ليتم الإعدام شنقًا.

لم تحكِ ألف ليلة وليلة عن حزن “مسرور” السياف بنجاة “شهرزاد”…!!

جاءت عجوز تتوسل حد تقبيل اليد ليحضر المحامي مع ابنها قضيته.

إذا لم يكن لدى المذنب محامٍ، ألا تُكلّف له الدولة محاميًا؟
يبتسم… تثق الدولة في شهامة الشعب؛ فلو لم يكن لديه أهل، الجيران يفعلون.

لحق بالمرأة وطلب منا العودة لقسم الشرطة، فالمحكوم سيعود للقسم في سيارة الدولة التي تطالب بالجنيهات العشر.

بعد العاشرة مساءً، كان زوجي في المغطس يحاول النسيان، وأنا بالخارج أكمل كتاب المقصلة.

مقالات من نفس القسم

علي الدكروري
تراب الحكايات
موقع الكتابة

المارد

amr al batta
تراب الحكايات
موقع الكتابة

الهانم