ضياء جبيلي
لم يرتدِ فؤاد في حياته معطفاً، لقناعته أن شتاء البصرة القصير والمعتدل، لا يستأهل منه أن يفعل ذلك. فما هي إلا أقل من أربعة أشهر، ويأتي الصيف الطويل، جالباً معه أعلى درجات الحرارة التي تُسجل في العالم. لكنه، وقد بلغ الثالثة والستين من عمره، أحيل على التقاعد، ووهن عظمه، وترهل جلده، وأصبح بليداً على نحو لم يعد يحتمل فيه البرودة، رغم اعتدال الطقس في أغلب الأوقات، بدأ يأخذ مسألة ارتداء المعطف على محمل الجد.
كان معطفاً مستعملاً من الصوف، لونه أسود، بأزرار وحزام وأكمام طويلة. اشترته له زوجته من أحد محلات الألبسة المستعملة، في سوق العشّار. قال لها البائع أنه معطف أصيل، وواحد من مجموعة من المعاطف المستوردة من روسيا منذ فترة قصيرة. وفعلاً، كانت العلامة التجارية تقرأ: صُنع في روسيا. وعلى الرغم من أنه يبدو نظيفاً، إلا أن الزوجة قررت غسله وكيّه من جديد. شمّته بداية، وكأنها تريد التأكد ما إذا كان ثمة رائحة فودكا، أو شيء من هذا القبيل، قبل إلقائه في الغسّالة. ثم أن أحداً لا يعرف ماذا يفعل الروس، وهم يرتدون المعاطف. أو ربما كان مستخدمه مصاب بمرض جلديّ، مما يسهل للعدوى الانتقال إلى زوجها. عندئذ، لا يمكن إلقاء اللوم على أحد سواها.
خلال يومين، صار المعطف جاهزاً.
لكنّ فؤاد ارتأى ألا يرتديه، إلا في يوم شديد البرودة. كان يستيقظ باكراً، ويخرج إلى الحديقة. يقف هناك قرابة عشر دقائق، وهو ينظر فوقه، وكأن البرد يأتي من السماء، ليقرر بعدها ما إذا كان الطقس بارداً فعلاً. وما زال يكرر ممارسته هذه، حتى قرر أخيراً ارتداء المعطف، في أحد أيام كانون الأول، حين سجلت درجات الحرارة أدنى انخفاض لها في المدينة. غيّر ثيابه وتأنّق كعادته، قبل ارتدائه المعطف بمساعدة زوجته. وفي غضون أقل من ساعة، كان جالساً في المقهى بانتظار رفاقه.
وبينما هو يقرأ في صحيفة اشتراها من بائع متجول، أحسّ فؤاد بحركة غريبة في الجيب الداخلي للمعطف، من جهة اليسار. ارتاب للحظات، متسائلاً إن كان قد أحسّ حقاً بشيء يتحرك، أو أنه يتوهم ذلك. حاول ألا يعبأ كثيراً، وعاد إلى ارتشاف شايه وقراءة الصحيفة. وما هي إلا بضع دقائق، حتى عادت الحركة في الجيب نفسه. ماذا يحصل يا تُرى ؟! تساءل وهو ينظر حوله، كأن هناك كاميرا خفية، وشخص ما يحرك فأراً في جيبه عن بعد. لكن، من أين يأتي الفأر ؟ لا يوجد في منزله فئران ولا جرذان ولا صراصير أو حتى وزغ. إذ ما زال يكافح القوارض والحشرات والزواحف، حتى قضى عليها جميعاً. ربما ليس فأرا، ربما هو تيس. أو هذا تماماً ما شطح به خياله للحظة، مأخوذاً بفكرة مثلٍ شعبي يُضرب كناية عن فضح المرء لنفسه دون وعيٍ منه. فالذي في عُبّه تيس فلا بد أن يمعمع. أفزعته الفكرة وطردها من رأسه وهو يضحك. افترض أن شيئاً لم يحدث وعاد إلى قراءة الصحيفة. وأثناء ذلك، عادت الحركة لتدب في جيبه مجدداً.
لم يصبر فؤاد أكثر حتى يعرف السر وراء هذه الجلبة، التي نغصّت عليه، وعكرت مزاجه الصباحي. أمسك بطرف المعطف الذي يحتوي على الأزرار، بدا متردداً وخائفاً وهو يجذبه إلى الأمام بحركة بطيئة، ليدس يده بعدها. لكنه لم يكد يفعل هذا، حتى فاجأه الصوت، مدوّياً، عالياً، صمّ أذنيه، وجعله يجفل كأنه رأى سحلية:
” كلنا خرجنا من معطف غوغول!”
اختل توازن الرجل واضطرب اضطراباً شديداً. وبحركة فورية، أطبق بطرف المعطف على صدره، وكأن هناك تيساً فعلاً، ويريد منعه من الخروج. لكنها لم تكن معمعة على أي حال، بل صوت صادر من آدميّ.
تعرّق فؤاد وأصابه الإعياء مما حدث للتو. حاول تمالك نفسه، والسيطرة على نبضه الآخذ بالتزايد. من حسن الحظ أنه جاء إلى المقهى في وقت مبكر، إذ لا يوجد هناك سوى زبونين أو ثلاثة، ولا يبدو أن أحداً منهم سمع الصوت الصادر من جيب معطفه الداخلي. فكر بمغادرة المقهى قبل مجيء أصدقائه. لا يرد الظهور كالأبله بينهم وعلى غير العادة. زرّر معطفه، دفع ثمن الشاي، وغادر. وفي الطريق إلى منزله، في الباص، حدث ما لم يكن يتوقعه. حركة مفاجئة في الجهة اليمنى للمعطف. لا بد أنه الشيء نفسه وقد انتقل إلى الجانب الآخر. الظن الذي لم يدم سوى لحظات، حينما عادت الحركة إلى الجيب الأيسر. ثم صارت تدبّ بالتزامن في كِلا الجيبين، الأيمن والأيسر، محدثة إرباكاً مزعجاً في نفس الموظف المتقاعد.
يبدو أن شيئاً غريباً يحدث لهذا العالم، وها هو يلقي بظلال منه على فؤاد. وإلا ما الذي يحصل منذ ساعات الصباح الباكر ؟ بدا منهكاً وهو يتساءل من دون جدوى. فكر بخلع المعطف وتركه في الباص. لكن، ماذا ستكون ردة فعل زوجته ؟ كان هذا هديتها له، ولن يفرط به لمجرد أن هناك من يعمد إلى إجفاله من حين لآخر. ومن جهة أخرى، لن تصدق ما سيقوله بشأن غرابة أطوار المعطف. إذن، سيتحقق مرة أخرى برفع الطرف الأيمن هذه المرة، ليرى إن كان سيزعق أحدهم بوجهه أيضاً. فعل ذلك أخيراً، وبنفس البطء السابق، بعد أن غيّر مكانه وجلس على المقاعد الخلفية الفارغة لكي لا يسمع أحد. فجاءه الصوت، وبنفس الوتيرة :
” كلنا خرجنا من معطف غوغول!”
ارتبك، وأوشك قلبه على التوقف في تلك الأثناء. رغم ذلك، وبشيء من التركيز، اكتشف أن الصوت لم يكن هو نفسه الذي خرج أول مرة، من الجيب الأيسر. إذن، هناك شيئان يعبثان معه وليس شيئاً واحداً. فأران لعينان، أو تيسان، أو شبحان. أياً يكون نوعهما في النهاية، ديناصوران على سبيل المثال، فعليهما الخروج من جيبي معطفه فوراً. وهو ما تبادر في ذهنه لحظتها. لكنه لا يعرف السبيل إلى ذلك.
وصل إلى المنزل. وعلى غير عادته، اتجه مباشرة إلى غرفة النوم. لم تكن زوجته متواجدة. ربما خرجت للتسوق، أو أنها تنشر الغسيل على السطح، وتثرثر في الوقت نفسه مع إحدى جاراتها. سيكون من الأفضل لو أنها تأخرت. خلع المعطف بهدوء وحذر، كما لو أنه يتلافى إيقاظ أحدهم من النوم، وعلّقه على الشماعة في زاوية من الغرفة. اتجه بعدها نحو الخزانة ليغيّر بقية ثيابه، ثم خرج إلى الحمام وهو يدندن، في محاولة للتصرف بشكل طبيعي. لكنه حين عاد، صدمه المشهد. أُغمي عليه لدقائق، أفاق بعدها على أصوات شجار بين شخصين، لا تظهر عليهما علامات هذا الزمن. كان بعمرين متقاربين، قد يكبر أحدهما الآخر بخمسة أعوام. الأول بشعر أشيب ولحية كثّة، والآخر في طريقه إلى الصلع، في وقت كانت لحيته طويلة أيضاً، لكنها شعثاء وغير متناسقة. كانا يرتديان معطفين، وثياباً تظهرهما كما لو أنهما خرجا من لوحة رُسمت في سان بطرسبرغ أو موسكو، أواسط القرن التاسع عشر.
ذُهل فؤاد حين رآهما، وراح يزحف على مؤخرته إلى الوراء. دعك عينيه، وفي كل مرة يفعل هذا، ويعود إلى النظر يراهما أمامه. كانا يتشاجران حقاً، ويحاولان، كلٌ على طريقته، إثبات أن عبارة ( كلنا خرجنا من معطف غوغول ) عائدة إليه. وشيئاً فشيئاً، بدأ فؤاد باستيعاب وجودهما الغريب في غرفة نومه. كان لا بد أن يفعل ذلك، بدلاً من الاستمرار في وجومه الذاهل أمام هذان الرجلان الغريبان، اللذان يبدوان على خصومة قديمة، ربما تعود إلى زمن غابر كانا يعيشان فيه غيرة متبادلة، أحدهما من الآخر.
نهض واتجه نحوهما. كان ما يزال مخطوف اللون ويرتعش، كمن رأى أشباحاً. قاطع شجارهما، ليسألهما عن هويتهما، وماذا يفعلانه في غرفته في مثل هذا الوقت.
انبرى أحدهما قائلاً، بطريقة لا تخلو من تفاخر فضحته نبرة سكان ماريانسكي الفقراء على أطراف موسكو:
” أنا دوستويفسكي.. فيودور ميخايلوفيتش دوستويفسكي !”
أهلا سيد فيودور ميخـــ….. إلخ !” رد فؤاد ساخراً، ماداً يده للمصافحة:” تشرفنا ” ثم توجه إلى الآخر قائلاً : ” وأنت؟ ألا تعرفني بنفسك؟”
“أنا تورغنيف” أجابه هذا بلهجة تنم عن غطرسة وخيلاء ملّاك الأراضي الشاسعة والأقنان في مقاطعة أوريول: ” إيفان سيرجييفتش تورغنيف!”
“أهلاً بك أيضاً ” قال فؤاد ولم يظهر عليه شيئاً من فزع الساعتين الماضيتين، فعلى ما هو بائن أنه بدأ الاعتياد على هؤلاء الأغراب: ” والآن أيها السيدان، هل يمكنكما إخباري ما الذي أتى بكما إلى منزلي؟ “
إلا أن أياً من الرجلين لم يجبه على سؤاله، فقد عادا إلى الشجار مجدداً، وعلى نحو أمض من السابق.
قال دوستويفسكي مخاطباً غريمه:
“هل كنت تقول أن خطابي في ذكرى الكسندر بوشكين هو ما أثار حنقك ؟ كلا يا عزيزي، بل أعمتك الغيرة كما هو واضح من تعابيرك. كنت تعلم، أنت وصاحبك الكهل تولستوي أني سأخطف الأضواء منكما. لهذا لم يحضر الحفل.. أيها المترف!”
” وماذا عنك أيها المقامر التعس؟ ” صاح تورغنيف بوجهه : ” كنت ما تزال مفلساً، حتى متّ ولم تخلف وراءك سوى العجائز المرابيات، المجرمين، المقامرين أمثالك، الشياطين، والبلهاء!”
يبدو أن كلام تورغنيف الأخير أثر بدوستويفسكي، مما جعله يقع أرضاً في نوبة صرع جديدة. أشفق فؤاد عليه، وهرع لمساعدته. في حين كان تورغنيف يكيل له النعوت الذميمة قائلاً :
“ها أنت أخيراً مثل بطلك الأبله الأمير ميشكين إلخ هأ هأ !”
في تلك الأثناء، خرج من المعطف شخص ثالث وهو يردد بأعلى صوته : ” كلنا خرجنا من معطف غوغول!”
“اللعنة على غوغول! ” صاح فؤاد وهو يساعد دوستويفسكي المصروع على النهوض. وكان هذا الأخير قد عضّ لسانه أثناء نوبة الصرع، ولم يعد قادراً على مجاراة تورغنيف، خصوصاً أن الزائر الجديد وقف ضده هو الآخر، وكان اسمه تولستوي، أو كما عرف هو نفسه قائلاً :
” الكونت ليف نيكولايفيتش تولستوي!”
كاد فؤاد أن يُجن. افتقد زوجته متسائلاً : أين اختفت هذه المرأة ؟! متمنياً لو تظهر الآن، لتوقظه من هذا الكابوس، أو تعيده إلى صوابه، فربما أصابه حقاً مسّ من الجنون. ولم يكد يكمل سؤاله، حتى فوجئ بصوت جديد :
” كلنا خرجنا من معطف غوغول! “
ومجدداً، تساءل : من يكون غوغول هذا ؟ هل هو ساحر، حتى يخرج كل هؤلاء من معطفه، كما تفعل الأرانب بخروجها من القبعة ؟
قدم الزائر الجديد نفسه :
” انطون تشيخوف! “
” تشيخوف؟ ” قال فؤاد متهكماً :” ومع من تقف أنت الآخر؟ مع فيودور دوستـــ إلخ، أم مع إيفان سيرجيـــــ …. ” التفت بعدها إلى تورغنيف سائلاً: ” هل قلت أسمك تورغانوف؟ “
” كلا يا سيدي ” أجابه هذا : ” بل تورغنيف.. إيفان سيرجييفتش تورغنيف!”
” نعم هذا هو ” قال فؤاد وعاد إلى سؤال تشيخوف: “إذن، مع من تقف في هذه الخصومة؟ “
” أنا لست مع أحد! ” صاح تشيخوف بصوت عال: ” كلنا خرجنا من معطف غوغول ! “
وهي العبارة التي ما زال يرددها كل من يخرج من المعطف، حتى امتلأت غرفة فؤاد بأساطين الأدب الروسي: مكسيم غوركي، بولغاكوف، بونداريف، سولجنيتسن، باسترناك، نابوكوف، يفتوشينكو، أكسينوف، شولوخوف، ميرجوكوفسكي، راسبوتين، كريستوفسكي وغيرهم الكثير. أحس بالهواء وهو يقل في الغرفة. كان واقفاً وسط الفوضى التي أحدثها موتى المعطف، وقد شرعوا بالنقاش، كل اثنين أو ثلاثة على حدة، ما عدا دوستويفسكي، الذي احتل السرير، وغط في نوم عميق. أصيب بالدوار، وكاد أن يختنق في النهاية، ويُغمى عليه، لولا أن فُتح الباب وظهرت زوجته من ورائه. رأته واجماً هناك بمنامته. منهكاً، ذاهلاً، كأنه نجى من حادث مميت للتو، وكان ينظر إليها بشزر مرة، وحيرة مرة أخرى. اقتربت منه لترى إن كان يحمل شيئاً بيديه، أم أنها توهمت ذلك قبل قليل. ولما صارت على مبعدة خطوتين منه، اكتشفت أنه يحمل كتاباً. تناولته منه، وقرأت على غلافه: المعطف.
” منذ متى تقرأ الكتب؟”
سألته ولم يرد. كان يحدق إليها فحسب، بشكل أثار في نفسها الريبة. التفت إلى حيث مكان الشمّاعة.
” أين معطفك؟ ” سألته بنبرة موبخة: “ما بك يا رجل؟ “
” كلنا خرجنا من معطف غوغول!”