الاستراحة

موقع الكتابة الثقافي
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

ضغطت مفتاح الإجابة ليفاجئني صوته مباشرة، دون مقدمات: 

-       ألا تريد أن تري أصدقاءك. 

وواصل دون أن أجيبه: 

-       إنهم يسألون عنك.. من المؤكد أنهم يشتاقون لراحة يدك وأنت تضعها علي أكتافهم وتضمهم إليك بحنو حقيقي، لكن الأكثر تأكيدا أنهم يشتاقون لسجائرك التي تخرج من علبتك دون حساب، تحت ضغط إلحاحهم ويدخنونها بسرعة تجعل السجائر تتراقص بين أصابعهم وشفاههم، قبل أن يداهمهم واحد من طاقم التمريض وينزعها من بين شفاههم، ويلوح لهم بجلسة الكهرباء. 

-       يوما ما من أيام الأسبوع القادم سأهاتفك وأدبر معك موعدا مناسبا لزيارتهم. 

-       أرجوك. 

وقبل أن أنهي المكالمة قال: 

       هناك شئ لا بد أن تعرفه.. المهندس جورج بارانويا لم يتناول علاجه اليوم قبل تأكيدي له أنك ستزوره قريبا.. يريد التحدث معك، وقد أوصلته سلامك قبل أن تقول.. سلام. 

حين زرته في مكتبه أصر أن يأخذني في جولة داخل عنبر مرضي الفصام.. كان حريصا أن يقابلني بمرضي الفصام الوجداني تحديدا، ويستثيرهم ليسمعوني حكاياتهم التي لم أستطع تمييز الحقيقي من الخيالي فيها. 

قصوا جميعا حواديتهم، وتعاملوا معي باعتباري مفتشا من الوزارة، جاء ليطمئن علي أحوالهم ويرفع تقريرا عنهم للمسئولين الكبار، عانيت طويلا معهم حتي أقنعتهم بأنني لست مفتشا من الوزارة، فقال أحدهم بابتهاج مفرط: 

       إذن أنت صحفي يا باشا. 

وراح يهتف: 

       الصحافة فين.. الفساد آهه. 

ردده بصوت عال وخبط كفيه ببعضهما وهو يضحك لاكتشافه المهم. ثم شدني فجأة من يدي واتجه بي نحو مريض نائم علي السرير. مغطيا عينيه بعصابة سوداء. أيقظه بإلحاح وهو يقول: 

قوم يا علي.. قوم.. الباشا دا صحفي. 

أزاح علي العصابة عن عينيه فدمعت عيناي.. حدقنا في بعض طويلا دون كلام.. كان السؤال الذي يشغلني: ما الذي جاء بعلي إلي هنا. 

حتما قرأ السؤال في عيني لأنه قال بهدوء وبلغة فصيحة: 

اطمئن.. أنا لست مريضا.. فقط تعبت من الخارج فقررت أن آتي إلي هنا.. إلي المحطة لألتقط أنفاسي. 

وجلس علي طرف السرير يلقي نظرة علي مجموعة من الكتب والمجلات كانت تستقر فوق الكومودينو المعدني بجواره. 

كانت الكتب مرتبة بنظام شديد وسريره نظيفا بصورة ملحوظة. 

حاسب القطر ياعم الحاج. 

فاجأني صوت زعق بشدة من ورائي.. حسبته مريضا جاء من خلفي وأراد تنبيهي لقطار لا يراه غيره. تكرر الصوت واختلط بصفير قطار كان يشبه الصراخ. حتي اختفي الصوت ولم يبق غير صراخ القطار الذي بات قريبا من ظهري. انتبهت فجأة وأنقذت نفسي في اللحظة الأخيرة.. استبصرت ما حولي فوجدتني واقفا علي شريط السكة الحديد. لم أتحرك خطوة واحدة منذ هاتفني محمد. استعدت ذاكرتي وتوجهت إلي محطة القطار. بمجرد انتهائي من السلالم الصاعدة إلي أرصفة المحطة وجدته جالسا علي أريكة أسمنتية. كان شاردا بصورة ملحوظة ويخاطب أناسا لا يراهم أحد. وقفت أمامه.. تلاقت أعيننا كما تلاقت في المستشفي بعد أن أزاح العصابة السوداء عن عينيه. دمعت عيناي من جديد وأنا أبادره: 

– ازيك يا علي. 

لم يرد.. فقط» لملم مجموعة من الكتب والصحف والمجلات كان يتكئ عليها. ضمها إلي صدره وهب واقفا. أطلق نظرة غاضبة نحوي وانصرف من يأمامي. وهو يردد: 

– آديني سايب لك الدنيا كلها وماشي يا عم. 

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

اللوحة للفنان: عمر جهان

مقالات من نفس القسم

موقع الكتابة الثقافي uncategorized 12
تراب الحكايات
عبد الرحمن أقريش

المجنون