النبلاء المتجهمون، الذين سجنتهم (هيئة الكتاب) في مستعمرة (السكة الجديدة) ثم قطعت أعضاءهم، وأعطتهم بدلاً منها أقلامًا زرقاء لتوثيق سعادتهم.
يمكن لأحدهم ـ وسيشبه (عبد الناصر) لو تنحّى، وعاد إلى صفوف الشعب فعلا ـ حينما ينتقل ليبيع الكتب بالمعرض، وتعويضًا عن قصته الأولى التي لم يكتبها بعد؛ أن يرشد ولدًاً صغيرًا إلى (الصوت المنفرد) لـ (فرانك أوكونور)، و(القصة القصيرة) لـ (آيان رايد).
موظفو هيئة الكتاب أذكياء، ومتعاطفون .. يعرفون كتّاب القصة بمجرد قراءتهم لعناوين الكتب التي يجيئون بها إليهم كي يدفعوا ثمنها .. فضلاً عن تنبيه الصغار إلى الكتب المهمة التي لم ينتبهوا إليها، يدلونهم أيضا إلى موعد ندوة أسبوعية بقصر الثقافة ـ خاصة بمنتدى عروس النيل الأدبي مثلاً ـ ستساعدهم على اختراق السماء، والإقامة فيها، حيث يعيش (نجيب محفوظ)، و(يوسف إدريس)، و(تشيكوف)، وبقية الآلهة.
سمع جميع زوّار المعرض موسيقى (ضمير أبلة حكمت) حينما كان موظف الهيئة يودع بعينيه المبتسمتين، المرهقتين بثقل الحكمة وجه الولد الصغير، وهو يخرج من الباب ممسكًا حقيبة الكتب بثقة ممتنة.
موظفو المكتبات الذين أنقذهم الصوت الاستثنائي، الساحر، المتمركز داخل أعماقهم، وتحديدًاً فيما بين ظهورهم، وأفخاذهم حينما يفشلون في الكتابة، ويريدون عملاً إضافيًا يمكن لأحدهم أن يعمل مصححًا للغة في جريدة إقليمية يديرها (مومس إعلانات) .. يمكنه أيضًا أن يكتشف وقتها أن الولد الذي ساعده في المعرض قد أصبح بعد ثماني سنوات محرر الصفحة الأدبية بالجريدة .. موظف هيئة الكتاب لن يعنيه شيئًا سوى معالجة الجروح التي تصيب (العربية) بالأظافر المتسخة لعيال الصحافة الجدد .. لكنه بالتأكيد سيجد وقتًا للنظر في صمت لوجوه زملائه، خاصة الولد الذي لم يكتف بأنه صار شابًا، ولا بأنه أصبح قاصًا، وصحفيًا، ولا بأنه نشر ذات يوم قصة في (الأهرام المسائي)، بل وفوق كل هذا دخل المكتب، وفي يده نسخة تناقلتها أيدي الموجودين .. موظف هيئة الكتاب حينما يفشل في الكتابة، وحينما يعمل مصححًا للغة، لن تكون هناك حدود لمهمته الكونية .. ستحتم عليه المسؤلية بعد أن تصل الجريدة إليه أن يضع تحت إحدى كلمات قصة الشاب خطًا بأحد الأقلام الزرقاء التي أعطتها له الهيئة بدلاً من عضوه المقطوع .. ربما انتبه الحاضرون، وأيضًا ربما انتبه هو نفسه مثلما جاء في ذهن الشاب لحظتها أن هذه هي المرة الأولى التي يتكلم فيها موظف هيئة الكتاب معه منذ أن جاء ليعمل مصححًا للغة .. أخبره أن الكلمة ليس بها خطأ في الإملاء أو النحو، وإنما رآها فقط (غير مناسبة) .. كان هذا كافيًا كي يحمي الصمت الذي عاد إليه آمنًا بعدما أعطى الشاب نسخة (الأهرام المسائي) ملصقًا بها قطنة صغيرة تكتم نزيفًا ما في قصته، يجب أن يسرع إلى البيت لإيقافه.
الحياة تكمن هناك .. في الثواني القليلة التي تمر خلالها أمام مقهى صغير مختبئ في شارع جانبي، ويجلس عليه موظف هيئة الكتاب الذي لم يعد موظفًا، ولا مصححًا للغة، وبالطبع لم يكتب قصته القصيرة بعد .. الموت أيضًا يكمن هناك .. في نفس الثواني القليلة التي ستفكر خلالها في براعة الصدفة الكامنة في وجود المقهى داخل الشارع الخلفي لبيت الشاب .. الأورجازم يأتي من هناك إذن .. اللذة المتصاعدة التي لا يمكن احتمالها حينما تتمعن في موظف الهيئة الممسك بسيجارة كيلوباترا ـ وهو الذي لم يدخن أبدًا من قبل ـ وفاتحًا رقعة شطرنج على الطاولة أمامه، ومجهزًا الجيشين للعب مع غائب لا يأتي أبدًا .. مشهد أصعب من تكوينه كحلم، وأجمل من تصديقه كحقيقة .. المتعة التي لن تكتمل إلا بتخيل نفسك تذهب إليه، ثم تضع يدك على كتفه، وتسأله بعتابٍ أخويٍ رقيق كاتمًا ضحكاتك: ( لماذا لا تنهض، وتكتب قصتك الآن بأي طريقة؟).
ليس كل موظفي المكتبات يحكمون العالم .. فقط الذي يأخذ منهم مكان زميله الميت، ثم يشتري على حسابه لافتة (مغلق للصلاة) ليعلقها على الباب الزجاجي المغلق للهيئة المصرية العامة للكتاب بالسكة الجديدة معظم اليوم هربًا من الذنوب التي تُوجعه فيما بين ظهره وفخذيه كلما باع كتابًا من سلسلة (الجوائز) للشاب الذي لا يزال يكبر.