شواش .. نظرة أدبية لفوضى العالم!

موقع الكتابة الثقافي
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

زينب محمد عبد الحميد

في رواية "شواش" للكاتب أحمد سمير سعد، الصادرة مؤخرًا عن دار اكتب للنشر، يبدأ الكاتب  بداية "علمية" حيث التعريف بالمصطلح "شواش". تدرك من تلك التعريفات اللغوية والوصفية أن الشواش كلمة مرادفة للفوضى وأنها أدرجت حديثًا ضمن الدراسات العلمية حيث محاولة دراسة الأنظمة التي تبدي الفوضى. باتساق تام وبعد تعريف المصطلح يستخدم الكاتب الأداة نفسها في سرده حيث فوضى الأحداث التي تحيط الراوي والتي يكتفي برصدها كما هي في فوضى تقاطعية بين أحلام الراوي ويقظته، بين زمنه المنصرم والحالي، بين نظريات العلم وواقع حياته، بين ملذاته الحسية وشعوره. من الصفحات الأولى وبسلاسة تدخل إلى عقل الراوي مباشرة فلكونه عالمًا يستطيع التنظير بشكل مباشر وتسمية الأشياء بمسمياتها وبالتالي إدراك التشوش الذي نعيشه. ولم أتعجب من كون كاتب الرواية درس بالمجال العلمي إذ إن مسحته تلك واضحة بجلاء، المهم أنك تستنج ذلك التأزم الذي يعايشه الملتصقون بالعلم إلى أقصى حدوده المجردة للدرجة التي تجعل الكاتب يلخص وبالصفحات الأولى وبوصف دقيق شخصيته ورؤيته وأحداثه حيث يصف نفسه "كإله مل العالم، أنظر إلى كل شيء في غير اعتناء وبترفع العارفين، أو لعله يأسهم، أبشر بالنهاية وأحتفظ بالبشرى لنفسي، أهون من أن أتحدث إليهم وأوهن من أن أخبرهم".

بالفعل ينظر البطل إلى نفسه تلك النظرة التي تجعله يقف "على حافة الجنون" توقفه المعرفة على بعد أميال من الواقع فيستبصر كإله عارف بالأقدار ينتابه الإحساس بالزهو لدرجة أن غيره لا يستحق تلك الحقيقة/المعرفة التي هي حكرًا لأمثاله. أما عبث "الشواش" فيجعل نتيجة العلم واليأس واحدة ولهذا وجب الترفع عن إفشاء النتيجة لصانعي تلك الفوضى. يفضي هذا القرار إلى محاولة لمسالمة هؤلاء العبثيون بمجهود ذاتي يفضي إلى الانقطاع عنهم ومحاولة إحداث الروابط الخفية بين تلك الفوضى التي تجتاح العالم وبين عقل العالم الذي يؤسس للنظرية ويستنتج حلولها، وبالفعل يضع أمامك الكاتب رغم ما يبدو من الفوضى الأولى تلك الروابط التي يصنعها بعقله بل يجعلك تتخيل تلك العملية التي يدورها بعقله فتفعلها كذلك "أغمض عيني، أنقطع عن العالم، أتوحد به، أحاول ملء فراغات الحكاية واللغة، فك رموزها ورد تطورها لإدراك ما يقولون.." يمارس الراوي/البطل آلية التنظير إلى أبعد مدى حتى إنه لا يجعل منك متفحص للشخصيات بل يحاول تحليلها بشكل مجرد للدرجة التي جعلته يرى في واحد من الشخصيات صورة معادلة له مختلفة الملامح "... محمود نصار صورة ذهنية مني.."() وإن حاول نفض ذلك عن نفسه إلا أنه يدرك أنهما من النوع ذاته "أرفض الخاطرة، لا تشابه بيني وبين ذلك المخبول، كثير الكلام يهاجمني الخاطر في ضراوة. أمثال محمود وأمثالي لا يفكرون كبقية الخلق، لا يركنون إلى التفسيرات القديمة والقواعد البالية.... أمثالنا يستطيعون أن يغيروا شكل الكون والإنسان والمدارك والمعطيات والنتائج" وقد أخذ في تحليل الشخصيات المحيطة له بنفس التفكير التنظيري والتجريدي.

أما الفوضى والشواش الحقيقي الذي يدور الراوي في فلكه هو شواشه الداخلي بين ذهنية العالِم الذي يرصد تحركات العلم نحو الكمال وحل المشكلات والتبوء بالمستقبل وبين نظرية "الفوضى" وواقعها الذي يفتت المقاييس العلمية ويخرج من دائرتها. ركز الكاتب بتنوع لغوي ووصفي على نقل ذلك الاضطراب والتناقض بشكل متكرر "كل شيء من حولي متلاطم، العالم وكأنه على حافة الشواش والفوضى... ولو.... كل ما يُظن عشوائيته خاضع لنمط وقانون رياضي، كل ظاهرة في العالم تتبع نظامًا حتى تصل إلى نقطة حرجة، بعدها يحدث الشواش والفوضى.."  في حين يتقبل الناس الواقع كما هو بل يرون في عبثه المتكرر نظامًا يعتادونه بلا اندهاش، فقط يتداولون أحداثه بخبرة "جماعية" مفادها "تعددت الأسباب والموت واحد".

الاندهاش الذي يقود البطل/عالم الرياضيات للجنون اندهاش منطقي له أسبابه. الأسباب نفسها التي ظن أن لها التفسير الإلهي لما حدث وما سيحدث. ويصرح بقوله: "لا أصدق ولن أصدق.. الأشياء لا تتخلى عن منطقها فجأة وإن تنبأت بها الرياضيات المسكونة بطاقة الاحتمالات.." عن دافع جنونه ذاته حيث تتخلى المعطيات حقيقة عن أسبابها ليراه الجميع وأمثاله مجنونًا أما ما يدفعه إلى الاستمرار في دائرة علومه المفترضة هو إيمانه بنتيجة ما ستصل إليها أرقامه حتما.

إن كنت تجالس مهووسًا بالعلم فستفهم ما فعله الكاتب تماما ولن تفاجئ بذلك السرد الذي يبدو بلا أحداث تصاعدية حيث تسير الرواية على نغمة سردية واحدة تتلخص في إيمان البطل بعلمه في حين يُعايش فوضى الواقع، وهكذا يسرد الكاتب أحداثًا على المنوال ذاته. وكما تبدأ الفوضى منذ الصفحات الأولى في دائرة واسعة تضيق إلى أن تحبط البطل بشخصيات قريبة منها. أما إن كنت قارئ متمعن فلن تفاجئ بأي حدث أو رد فعل للبطل إذ إنه منذ البداية يعرض لك بوضوح عالمه، بل ويلخص فلسفته هو وأمثاله مرارا: "مشكلة أمثالي من رجال العلم والرياضيات والفيزياء أن هذه الصور المنطقية التي يفرضها العالم لا تجدي معنا نفعًا..."  أما أزمته التي ضغطت عليه واستغلت مرضه فكانت "أكبر أزمة للعالم أنه مفتوح على كل احتمال وكل تأويل، حتى العلم ذاته بكل قواعده وفلسفاته خاضع للتغير والأهواء.."  آمن بالرياضيات وعاش مشاهدات حياتية متسقة، وقد صور مشاهداته بدقة تتناسب مع انغماسه في العلم؛ إلا أن إيمانه ذلك لم يخرجه من فوضى ذلك العالم، وكان ما لم يستطع التوصل إليه بعلمه، أو بالأدق ما توصل إليه من "فوضى الاحتمالات" كفيلة بأن تضيفه إلى عالمها.

اتسقت الرواية تماما بأحداثها مع شخصية البطل الذي يرويها، إلا أن بابا يُفتح أمامي حول نظرة هؤلاء "علماء الفوضى" لعبث هذا العالم.

 ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

 ناقدة مصرية






مقالات من نفس القسم