عبد الرحمن أقريش
الزمن، ذات أربعاء، 1995.
المكان، زاكورة، مدينة جنوبية في قاع المغرب المنسي.
الأصيل.
نجلس في المقهى الأنيق، نقتل الوقت، ندخن، نقرأ الجرائد، نلعب الورق، نثرثر، ونخوض في نقاشات عالمة لا تنتهي…
نلتفت، ننتبه فجأة لوجود المخبر المحلي، شخص نصف أمي، كلفته السلطة بالتجسس علينا، كانت مهمته غبية وبلا معنى، يجلس وحيدا هناك في الخلفية، في ركن منزو من المقهى، يسترق السمع، ويحشر وجهه في جريدة قديمة…
تستيقظ قسوتنا المجانية، نقرر أن نفسد عليه جلسته، فنخوض في الموضوعات المحرمة، موضوعات صادمة تشعره بالحرج، موضوعات يمتزج فيها الجنس بالسياسة، والدين بالنكتة والبذاءة، كنا نسمي هذا الخليط (علوم الحجر).
نستحضر (الروض العاطر)، (رجوع الشيخ إلى صباه)، (رسائل القيان والغلمان)، كتاب (العجب العجاب فيما لا يوجد في كتاب)، (إيمانويل) وأدب البورنوغرافيا…النصوص المحرمة لامرئ القيس، أبو نواس، ماركيز دو ساد، ألبيرتو مورافيا، محمد شكري، أوسكار وايلد، ووودي آلين…
يقاوم الرجل في البداية، يشعر بالحرج، يحاول أن يفهم، ولكنه في الأخير يستسلم، فيغادر المقهى مصدوما مهزوما.
ثم تدريجيا نسترجع هدوئنا، ونعود إلى حميميتنا.
ثم، تظهر هي.
اسمها (زهور)، سيدة في حدود الأربعين من العمر، فارعة الطول، سمراء، وجه بملامح زنجية، عينان كبيرتان، أنف وشفتين بتفاصيل خلاسية، شعر أسود ليلي مجعد بضفيرة ممتدة…
جمال جنوبي بتفاصيل لا تخطئها العين.
كان مرورها في أزقة المدينة استعراضا حقيقيا، أقراط معدنية لامعة في مناطق مختلفة من جسدها، الأذنين، الأنف، اللسان، وفوق الخيط الرفيع لحاجبيها المرسومين بالسواد…
كان شكلها العام يوحي ببهرجة متعمدة، تبرج فاضح، ملابس بألوان وأشكال احتفالية…
تختلف (زهور) عن كل نساء المدينة، فهي شخصية متفردة، قوية، كبرياء، أنفة، اعتداد بالنفس، وجرأة صادمة.
تظهر فجأة، ثم تختفي لأسابيع.
يقال إنها مومس متقاعدة، انتقلت من البغاء إلى التسول، بعد أن فقدت بهاءها بفعل الاستعمال، والسهر، ودخان السجائر، والخمور الرديئة، وأيضا بفعل مرورها المنتظم بالسجن المحلي للمدينة.
تأتي دائما من نفس الجهة، تقف أمام الواجهة الزجاجية الأنيقة لمقهى الأساتذة، تتوقف هناك، تنظر إلينا ونحن منخرطون في ثرثرة لا تنتهي عن السياسة والكتب والنساء وهموم العمل…
في حركة سينمائية، تسحب نفسا من سيجارتها، تطرد الدخان من أنفها وفمها بلذة، تتلاعب به، ترسله بعيدا على شكل أعمدة قوية ومستقيمة.
تبتسم، تخاطبنا.
– دورو معايا الأساتذة، زعما راه الفيرمون ديالكم داز!!
تنتظر قليلا، ولكنها لم تتلق ردا.
فقد كنا منخرطين تماما، البعض منا لم ينتبه حتى لوجودها، آنذاك، تنظر جهتي، تتأملني، ترسم لحظة صمت وكأنها تفكر، تخاطبني بصوت تريده أن يكون هادئا ومغريا.
تخاطبني.
– دور معايا انتا ألزين!!
تنتابني مشاعر متناقضة، مزيج من الإطراء، والامتنان، والحرج…
ألوذ بالصمت، أتصنع الهدوء واللامبالاة، تتفرس أصابعي، تنظر لساعتي اليدوية، تنتبه فجأة لخاتمي الذهبي، ترتسم على شفتيها بداية ابتسامة غريبة.
ترفع أناملها الرفيعة إلى شفتيها، تمتص نفسا عميقا من سيجارتها، تمسكه للحظات، ثم تحرره، ترسله بعيدا بنفس الحركات ونفس الإيقاع السينمائي.
تخاطبني، وعبري، توجه كلامها للجماعة كلها.
– كتعجبوني غير بالخواتم ديال الذهب!!
يتدخل (سي احمد)، يخاطبها.
– آزهور…ديري لك شي صاحب يفورني عليك، وباركا عليك من التسول!!
تبتسم مرة أخرى، ترتسم على وجهها الخطوط الأولى لتعبير مؤلم، تصدر آهة حارة وقوية.
تخاطبه، تجيبه بصوت يمتزج فيه الغضب والمرارة والغبن بالخيبة والاحتقار…
– إوا صافي…ندير الصاحب ي… فابور!!
تنفجر الشلة بالضحك، ضحك هستيري، مجنون، منفلت، لا يتوقف إلا لينطلق من جديد…
تنظر إلينا بقوة، بكبرياء، تبتسم، ولكنها لا تضحك.
صدمتني الجملة، بدت لي قوية، عنيفة وجارحة، ولكنني أعجبت بصراحتها وذكائها…
عندما غادرت، عدنا نحن لثرثرتنا المزمنة.