الوجه والآخـــر

محمد العربي كرانة
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

محمد العربي كرانة

رآها ممددة ووجهها إلى الحائط. لم تجرؤ على النظر في عينيه، ود لو يكسر عنقها، اقتربت منه زوجته وقد كسى الشحوب محياها، لقد صعقه الخبر، بقي متسمرا في مكانه للحظة كأنه لم يستوعب ما قيل له، صرير أسرّة، وبكاء أطفال حديثي الولادة صما أذنيه، استدار وخرج صافقا باب الغرفة وراءه. حاولت اللحاق به لكن ظلمة الزقاق ابتلعته.                                                                                                      

 وجد نفسه وسط شارع مقفر لا يسمع فيه غيرعويل رياح خريفية عاصفة ، وإيقاع زخات مطرية قوية . سيارة مارقة كادت تدهسه ، لم يكترث لزعيق منبهها ولا لسباب راكبيها ، وكأن الأمر لا يعنيه. المهم ألا يتوقف عن المشي وكأن ابتعاده درع واقٍ من هول ما سمع . في ذهنه تساؤلات لم يجد لها جوابا، وشريط ذكريات لا ينتهي. أضواء سيارة وراءه مددت ظله على الإسفلت فبدا ككائن  خرافي. منبهها الملحاح أفاقه من ذهوله. توقفت محاذية له، أطل من نافذتها  شرطي عبوس سأله بغلظة :

     – ماذا تفعل أيها المجنون وسط الطريق ؟

 وجه الشرطي ، السيارة وأضواء الشارع ، لوحة سريالية تبدت من وراء  نظارته المبتلة، تاه بين ألوانها وغفل عن الإجابة. ابتعد مترنحا، مسح نظارته بثيابه ولم يزد المشهد إلا ضبابية. لم يُحرْ جوابا، هو نفسه لا يعلم كيف ولماذا يتواجد وسط الطريق. رفع يده معتذرا واستدار ليصعد فوق الرصيف سقط من طوله. تنبه الشرطي لحاله، نزل من السيارة مكرها :

     – ربطة عنق، بدلة مبتلة وارتباك.. أمرغيرطبيعي. 

طلب رؤية هويته الشخصية، فتش جيوبه ولم يجدها، تعلل بأنه يقطن بالجوار وسيعود من حيث أتى، لم يقتنع الشرطي بكلامه . أمره بالصعود لسيارة الشرطة. استعاد بالجلوس  بعضا من توازنه، حملق فيما حوله واستبان بقدر ما تسمح به أضواء السيارة الخافتة ؛ رجلين ونسوة ثلاث  يقبعون على مسطبات حديدية متقابلة . رحب به أحدهم بصوت متلعثم مستغربا وجوده معهم. رائحة خمر وعطر رخيص زكمت أنفه، أشعرته بعبثية ردة فعله وعدم جدواها.

كلمات زوجته ما زالت ترن في أذنيه وتعيده لنقطة البداية. الكرة الضاغطة على صدره والكاتمة لأنفاس ازدادت ثقلا. عجزه عن إيجاد أجوبة منطقية ومقنعة لأسئلة انهالت عليه تترى أرهقه، الهروب لن يعفِه عاجلا أو آجلا من مجابهة ما ينتظره.

كان الدرع الواقي للأسرة والركن المتين الذي تستند إليه، ومجيرها في الملمات ، فكيف أخلف الموعد هذه المرة؟!! وهل فعلا أخلفه ؟إخفاقه في تحديد المسؤولية وضبابية الحل المنتظر، عطلا قدرته على استيعاب الوضع. أمسك رأسه بكلتا يديه ثم انخرط في بكاء صامت سرعان ما استحال نحيبا . شعر بيد مرتعشة تربت على كتفه، أصغر النسوة تواسيه. كبت رغبته  في الابتعاد عنها. أثناه عن حركة الرفض، وجه طفولي يظهر من وراء مساحيق وضعت بطريقة اعتباطية حتى تبدو أكبر من سنها. لم يحرك ساكنا. في عينيها دموع، بريق تعاطف وخوف، وعلى شفتيها ابتسامة جامدة . ماذا تفعل هذه الطفلة هنا؟ تساءل وهو يزيح برفق يدها عن كتفه بانحناءة ممتنة. صاح أحد السكارى وقد أثاره المشهد :

      – يا لك من محظوظ لو علمنا أن الدموع وسيلة لجذبها لانفطرنا بكاء.

عادت لتنزوي في ركنها، ظلت تتطلع إليه وقد عاد الوجوم لوجهها. شعر برغبة عارمة في حمايتها. انطلقت السيارة، توهج ضوئها الداخلي عرى عن وجوه متعبة وأجساد مكدودة. تجاهل الكل ما عدا الفتاة .لم يعد يهتم  بتواجده  صحبة السكارى والمومسات ولا بما ينتظره في المخفر . كل جوارحه منجذبة نحوها. الجالسة أمامه المستكينة في ذلها وهوانها لا يعقل أن تكون منهن. كن بالنسبة له أجسادا  بلا وجوه، عملا بدون ذوات، أشباح ظلام في خدمة نزوات المجتمع وشذوذه. لم يكن لهن عمر محدد ولا هوية محددة .

توقفت السيارة، أُمر الجميع بالنزول. المخفر يعج بالحركة في هذا الوقت المتأخر من الليل. فُصل بين الرجال والنساء، وقبل أن تغيب عن ناظريه أشارت بيدها مودعة بحركة مقتضبة . بقي مشدوها وهو يحملق في الباب المغلق وفي ذهنه نقشت صورة وجهها الطفولي المختفي وراء المساحيق .  ود لو سأل عن مصيرها وعن إمكانية مساعدتها ، ولكنه لم يفعل اتقاء شبهة هو في غنى عنها .                                                

ترك المخفر بعد أن وقع التزاما بعدم تكرار فعلته . تنفس الصعداء. انطلق نحو بيته بخطى ثابتة، يغسله المطر، ينظف دواخله، وهو يردد بصوت خافت:

     – كدت بنيتي كدت … لولا وجهك الطفولي .

 

 

مقالات من نفس القسم

موقع الكتابة الثقافي uncategorized 12
تراب الحكايات
عبد الرحمن أقريش

المجنون