القمصان التي أحب

هاروكي موراكامي.. عندما أكتب تأتيني حلول للمشاكل الأصعب .
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

هاروكي موراكامي

ترجمة: فاطمة ناصر

 الأشياء التي ظلت ترافقني وقمت بتجميعها في آخر المطاف

لست مهتماً بتجميع أشياء معينة والإحتفاظ بها، ولكني لاحظت أن هناك نسقاً يستمر في التكرار على الرغم من أنني لم أوليه أي اهتمام أو رعاية، فالأشياء تقوم بجمع نفسها بنفسها وتتراكم من حولي دون أدنى تدخل مني.

تلال من أسطوانات الفونوغراف السوداء أكوام منها لن أتمكن من سماعها كلها في حياتي، والكثير من الكتب التي قرأتها ولن أفتحها مرة أخرى، وعشرات من قصاصات المجلات، وأعقاب أقلام رصاص بالغة القصر لدرجة أنها لن تتمكن من إدخالها لمبراة الأقلام مرة أخرى. كل هذه الأشياء تستمر في التراكم من حولي، تماماً كشخصية أوراشيما تارو Urashima Taro في القصص اليابانية الخيالية، الذي كان لا يستطيع كبح نفسه عن إنقاذ السلاحف الصغيرة على الشاطئ وهي ذاهبة لحياتها الجديدة نحو البحر.. هكذا أجدني مستسلماً تماماً في عملية مراكمة الآشياء، مدفوعاً بمشاعر لا أستطيع إيجاد وصف لها. على الرغم من وعي التام بعدم جدوى مراكمتي لمئات من أعقاب أقلام الرصاص الصغيرة تحديداً.

أما القمصان T-shirts التي سأتحدث عنها في هذا الكتاب، فهي أحد هذه الأشياء التي تراكمت بشكل طبيعي وتلقائي جداً مع مرور الوقت، فهي رخيصة الثمن، وكلما لفت انتباهي أحدها قمت بشرائه، والناس أيضا يهدونني العديد منها من جميع أنحاء العالم، وفي مشاركاتي الرياضية أحصل على قمصان تذكارية، وحين أسافر كذلك أشتري عدداً منها عوضاً عن شراء ملابس إضافية… كل هذا تحول في لمح البصر إلى أعداد لا تحصى من القمصان، فبلا مبالغة لم يعد لدي مكان كافي لها في دولاب ملابسي، واضطررت لوضع الفائض منها في صناديق تخزين ورفعتها فوق الدولاب. ولا تظنون أنني أفعل ذلك وفق خطة مستقبلية لتكوين واستعراض مجموعتي الخاصة من القمصان التي جمعتها خلال سنوات حياتي. صدقوني هذا ليس السبب.

ما هو حاصل اليوم إنني قد عشت لأشهد هذه اللحظة التي أرى فيها، أنني قد جمعت طيلة سنوات حياتي عدداً من القمصان كافياً جداً لكتابة كتاب عنها. وعلى الرغم من كونها فكرة مخيفة بعض الشيء، إلا إنني وجدت أن ما يقوله الناس عن كون “الاستمرارية هي مفتاح وسر النجاحات” هو قول صحيح وصائب تماماً. فقد أدركت بعد هذه السنوات أن التجميع هو الشيء الوحيد الذي واظبت عليه طيلة حياتي وقد أسفر عن شيء فعلاً.

قبل فترة أجرت المجلة اليابانية Casa BRUTUS مقابلة معي لأتحدث فيها عن مجموعة الأسطوانات الموسيقية التي احتفظ بها، وذلك ضمن عدد خصصته المجلة للحديث عن ملف الموسيقى المتميزة والفريدة من نوعها. وقد أشرت إلى مجموعة القمصان التي احتفظ بها في ذلك الحوار، فباغتني محرر اللقاء بسؤال إن كنت أنوي كتابة سلسلة خاصة عن مجموعة القمصان تلك. وفعلاً، شرعت بعدها بكتابة سلسلة مقالات عن قمصاني، نشرتها على مدار عام ونصف في مجلة Popeye المختصة في الأزياء والموضة الرجالية والتابعة لنفس دار النشر التي أجرت معي حوار الأسطوانات. وتلك المقالات هي ما جمعتها هنا في هذا الكتاب.

أتمنى قبل أن تشرعوا في قراءة هذا الكتاب، ألا تعتقدوا أن لهذه القمصان قيمة معينة تمثلها، أو أنني أدعي أنها تملك إبداعاً فنياً من نوع خاص. ببساطة، لقد قمت باختيار مجموعة من القمصان التي أحبها، والتقطنا بعض الصور لها، وكتبت عنها بعض المقالات القصيرة. هذا كل ما في الأمر. كما أنني أثق تماماً بعدم جدوى هذا الكتاب في تقديم حل لأي من المشاكل التي لا حصر لها في حياتنا، ولكن أظن أن الكتاب ذو مغزى خاص، فهو سيكون بمثابة المرجع التاريخي للأزياء للأجيال اللاحقة لنا، فقد يمر أحدهم عليه ليتعرف على نموذج من الأزياء المريحة والبسيطة، التي أقتناها ولبسها روائي عاش بين نهاية القرن العشرين وبداية القرن الحادي والعشرين، وربما لن يحدث ما تخيلته، وفي كل الحالات، أنا راض. فأملي الوحيد هو أن تجد أنت – يا قارئي – بعض المتعة في قراءة هذه المجموعة الصغيرة من المقالات.

إن تساءلت أي القمصان أحب إلي؟ فسأختار قميص توني كيتاني Tony Takitani. لقد ابتعت هذا القميص عند زيارتي لجزيرة ماوي وتحديداً من محل خيري يبيع السلع المستخدمة مقابل دولار واحد. وقد تساءلت بيني وبين نفسي: “لأي نوع من البشر ينتمي توني كيتاني؟”، وفتحت الباب لخيالي ورأيته ينطلق، ليكتب في نهاية المطاف قصة متخيلة بطلها توني كيتاني، التي لاحقاً تم تحويلها إلى فيلم!

كل هذا بدأ بقميص ثمنه دولار واحد! على الصعيد المالي مررت بتجارب استثمارية كثيرة في حياتي، ولكن هذا القميص كان أنجحها بلا منازع.

هامبرجر وكاتشب

كلما زرت أمريكا، وفور انتهائي من إجراءات التفتيش والجمارك، واستقراري في المدينة، أشعر فوراً برغبة للذهاب لشراء الهامبرجر. ماذا عنكم؟ بالنسبة إلي أصفه كشعور تلقائي وغريزي، وأعلم أنكم قد ترونه مجرد شعور عادي جداً، ولن أجادلكم في هذا. في كل الأحوال، أنا أذهب لشراء الهامبرجر مدفوعاً بتلك الرغبة.

لتكون رحلة تناولي الهامبرجر مثالية في أمريكا، أحرص أن أذهب لسلسلة مطاعم معينة بعد الساعة ١:٣٠ ظهراً حين ينفض زحام الموظفين من تناول الغداء. أدخل وأختار زاوية لأجلس فيها، وأشرع في طلب شراب كورس لايت Coors Lights وهامبرجر بالجبن متوسط الطهي، وشرائح طازجة من البصل والطماطم والخس والمخلل، بالإضافة إلى البطاطس المقلية. وكزيارة صديق قديم لابد من إضافة سلطة الكولسلو، وكل ماذكرته لا يكمل دون الرفقة الصالحة لخردل الديجون Dijon وكاتشاب هاينز Heinz. بعدها أجلس منتظراً وصول ساندويش الهامبرجر. فأشرب كورس لايت، مستمعاً لأصوات الناس من حولي، وأصوات الأطباق والزجاج في المطعم. أفعل ذلك بانغماس تام واهتمام، متشرباً أصوات المكان، وفي الحقيقة إن ما يتسلسل بداخلي هو أجواء بلاد بأكملها، بلاد مختلفة وجديدة، وبينما أنا مستغرق في هذا، أستوعب أنني فعلاً وصلت الآن لأمريكا!

أصدقوني القول، ألم يسيل لعابكم من تخيل هذا المشهد؟

مؤخراً، افتتحت في اليابان العديد من المطاعم المحترفة في طهي الهامبرجر، وهذا شيء جميل بالطبع، ولكن يظل تناول البرجر من مطعم سريع أو كشك في أمريكا، لا يرى في قطعة البرجر خصوصية عظيمة ويتعامل معها بكل بساطة دون أدنى تكلف، هي تجربة متفردة ولها مذاقها الخاص. سواء أكان البرجر الذي ستتناوله لذيذاً أم لا.

القميص الأول: يحمل رسالة واضحة (أنا أضع الكاتشاب فوق الكاتشاب – I put ketchup on my ketchup )، وهذا شخص من الواضح أنه واقع في غرام الكاتشاب، أو يمكن النظر للعبارة كونها سخرية من الأمريكان الذين قد يضعون الكاتشاب على كل شيء، ولكن المثير في الأمر بالنسبة إلي حين وجدت أن هذا القميص صممته شركة الكاتشاب المعروفة هاينز Heinz. هذه الجملة التي قد يراها البعض فيها تقليل من قيمة المرء لنفسه، تجد فيه الروح الأمريكية حاضرة وبقوة، تلك الروح المرحة التلقائية المتواضعة التي تريد القول: “لا يهمني أن أكون في نظرك متطوراً أو على الموضة، سأكون ما أريده أنا”.

………………………

* النص عبارة عن مقدمة لكتاب للروائي هاروكي موراكامي خصصه عن القمصان.

مقالات من نفس القسم