القراءة بالأبيض

موقع الكتابة الثقافي art
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

خالد البقالي القاسمي

          عندما توفي “ماو تسي تونغ” في 09 شتنبر 1976 تمت عملية طي صفحة الثورة الثقافية بصفة نهائية، لقد أنتجت تلك الثورة عاهات عديدة داخل المجتمع الصيني، لم يكن بالإمكان علاجها والالتفاف حولها إلا بالتصالح مع الذات من جديد من خلال البوح بالفظاعات التي خلفتها هذه الثورة عبر إبادة عدد كبير جدا من المناوئين والمعارضين لثورة “ماو” الثقافية.

لقد كانت ثورة “ماو” ترتكز على ما يمكن تسميته “القراءة بالأحمر”، كان من قبيل الإلزام الإيديولوجي والمذهبي على جميع الصينيين أن يقرأوا الكتاب الأحمر الذي كان يضم بين طياته وثناياه رؤية وتصور “ماو” لكيفية بناء وتشييد مجتمع الصين الشيوعية، ولم يكن هذا الكتاب الأحمر الذي على الصينيين جميعا الانكباب على قراءته سوى تجميع مكثف لخطب “ماو تسي تونغ” التي كان يلقيها بمناسبة وبدونها، السؤال هل كانت القراءة بالأحمر ناجعة وفعالة إلى الحد التي حجبت دونها جميع أنواع القراءات الأخرى؟ هل تتوفر القراءة بالألوان على قوة جذب لدفع كثير من المعرضين إلى الإقبال على التهام المقروء؟         

          ترى ما هي طبيعة القراءة عندنا نحن العرب؟ أو بالأحرى ما هو اللون الغالب على قراءاتنا؟ أعتقد أن مشكل القراءة لدينا نحن العرب يمكن طرحه في سياق الأصالة والمغايرة، لكي نقنع أنفسنا وأغيارنا والمحيطين بنا صغارا وكبارا بالقراءة علينا أن نوضح الرؤية في البداية وقبل كل شيء، يمكن أن نقرأ، ثم ماذا سنقرأ؟ عندما سوف نتجاوز سياق الفعل سوف نكون في موقف دقيق يتطلب منا الإعلان عن النوايا، تركيزنا على القراءة من زاوية الأصالة ضروري وحتمي، على أن يمر بقنوات التوجيه والتنقيح والتهذيب والتذويب والانصهار في أبعاد إنسانية واسعة مشتركة بين الحضارات التي تتقاطع وتسود. تركيزنا على القراءة من زاوية المغايرة شرط أساسي لولوج المنافذ التي يفتحها العالم الكبير والممتد أمام طالبي الفرص المفعمين بروح التطهر والاندماج، يبدو أنه مصير لا محيد عنه، نقرأ في عالمنا العربي معناه التوطين الجديد في عالم بهيج مشوق إنه نتاج القراءة بالأبيض، كله انفتاح وانعتاق وتطور، إنه تفكير في كل ما تم التفكير فيه على أنه لم يفكر فيه بعد بالمعنى الذي حدده “مارتن هايدغر”، ولذلك علينا أن نقرأ بطريقة فريدة تفيد معنى يدل على أننا نقرأ اليوم كما لم نقرأ بالأمس، أو كأننا لم نقرأ أبدا، ويبدو أن في الأمر تحديا كبيرا، حيث أعتقد أنه سوف يتم الاعتراض علينا في هذا القول من جانب انتقالنا السريع وقفزنا من أزمة القراءة إلى قراءة الأزمة دفعة واحدة، الصالونات لدينا فارغة، والكتب لدينا مهجورة، والإشكال يكمن في عادة القراءة وليس في أفقها، إن وجودنا ينتظر منا دائما ما هو جدير بنا، ليس علينا أن نخذل وجودنا هذا، علينا أن نتجاوز عثراتنا فنتجنب أن نكون مجازا عابرا لغيرنا، قراءتنا بالألوان سوف تثبت جدارتنا، الطرح “الهايدجري” يعتبر أن اللغة عبارة عن مأوى للوجود، لدينا في عالمنا العربي حلم النظر إلى القراءة كعنصر منتج لروافد متعددة تسند هذا الوجود.

           يقول “محيى الدين بن عربي”، (انظر الفتوحات المكية)

          منازل الكون في الوجود                     منازل كلها رموز

          منازل للعقــــــــول فيها                     دلائـــل كلها تجوز              

          إنها الأصالة والمغايرة، هي الظاهر والباطن، اللغة الوجودية ولغة الرمز، اللغة التي تعرج بنا نحو القراءة بمبررات شتى إيديولوجية وبيداغوجية ومعرفية نظرية، بأي مبرر نظرت فقد قرأت، ويبقى الأصل دائما هو القراءة، ولهذا لا يجب علينا أن نتعرف فقط على أزمة القراءة لدينا في العالم العربي بل علينا كذلك وفي نفس الوقت أن نتعرف على الدلالات الثاوية في ثنايا أزمة القراءة هذه، فعلى الرغم من أن المعروض القرائي لدينا متنوع ومتعدد فإن عدم إسناد بعضه للبعض الآخر يبقى أمرا مؤكدا، وهو بالضبط ما ينتج الأزمة داخل مجالنا القرائي في العالم العربي، بحيث يستطيع منتج قرائي أن يقترن بتغيير وتطوير كبير للموضوعات والمفاهيم وأشكال القول والتعبير والسياسات المتنوعة، ولكنه غالبا يصطدم لدينا بمنتج قرائي آخر أصم مغلق ليس له القدرة بتاتا على إظهار أية أصالة أو مغايرة أو ابتكار، إننا نبحث عن التحولات العامة التي تطرأ على التصورات والعادات والرؤى والعبارات والمفاهيم وطرق التواصل التي تصدر عن مواطنينا بعد انكبابهم على القراءة، لا يجب أن نقرأ فقط، بل يجب أن نصر على القراءة بالأبيض، تكفي حالتنا المتهالكة اليوم، حذار من القراءة بالأسود.  

          لا يجب أن نغيب عن اهتمامنا حيوية خلق وإشاعة جو ثقافي وفكري داخل عالمنا العربي، على هذا الرهان أن يخترق كل مكونات ومفاصل المجتمع ضمن المنظورين الرمزي والواقعي من أجل محاصرة ظلمات الجهالة، عملية القراءة هي بالمعنى الفلسفي والسوسيولوجي عبارة عن تعليق على النص المقروء، وهي بذلك – أي القراءة- تبعث الحياة والوجود في ذلك النص، إن الحرية هي شرط تحقق القراءة بواسطة لغة لا توصف فقط بأنها أداة تعبير بل هي كذلك أداة اكتشاف، بدون الإدراك الواعي للغة وأدوارها يصبح صعبا للغاية تحويل فعل القراءة في عالمنا العربي إلى سلوك مرن وعادة سلسة، فعل القراءة لدينا في حاجة ماسة إلى نظام، استعادة القراءة هي عملية رديفة للمأسسة، ولا يبدو أن المبادرات الفردية مسعفة وناجعة في هذا المجال، نحن في حاجة إلى تصور فعال ونظام علمي مضبوط متجانس لكي نستعيد وهج الفعل القرائي في عالمنا العربي.

          عندما نقرأ فإننا نتعرف ونطلع على ذواتنا وعلى غيرنا وعلى العالم، لأن القراءة مثلها مثل السرد قادرة على نقل الحضور والغياب في نفس الوقت، فالقراءة ترحال وتنقل من مكان إلى مكان آخر، ومن حالة إلى حالة أخرى، تمكننا القراءة من الاستخدام الفعلي المباشر لما يثيرنا ولما يهمنا، كما تمكننا من إجراء تقويم فعلي وتام لما يحيط بنا، ونستطيع بذلك أن نميز بين الممكن وغير الممكن، وبين الحقيقة والخطأ، وبين ما هو معقول وما هو غير معقول، دور القراءة كبير متسع، إنها تفسح المجال أمام تحصيل التجربة والمعرفة والعلم.     

          “تاريخ القراءة” في عالمنا العربي تاريخ يحتاج إلى كتابة وتوثيق، هو من أنواع التاريخ الّذي علينا الإلمام بمكوناته من أجل فهم جيد لأزمة القراءة التي نعاني منها اليوم، لفهم الأزمة علينا أن نفهم المسار، من المهم للغاية أن يشكل تاريخ القراءة لدينا فرعا معرفيا أساسيا على غرار تاريخ الأفكار وغيره، وعلينا أن نتعامل معه بدقة تليق به مقابل الدقة التي نتعامل بها مع فروع المعرفة الأخرى، لقد أوشكنا على استنفاذ أرضيتنا القديمة، وعلينا أن نحيط الجديدة بكل العناية اللازمة حتى لا نستهلكها هي الأخرى، إن تاريخ القراءة عالم مدهش، فهو لن يثير الحديث عن المقعد والمنظم من العلوم، بل ويا للمفارقة لن يثير الحديث إلا عن المبعثر وغير المنظم، ذلك أن عملنا في هذا التاريخ لن يكون إلا إضفاء النظام على هذا اللانظام الذي لن يكتسب طابعه العلمي والمعرفي إلا بعد تجميع تشتته وتناثره بين العلوم والمعارف والبحوث، فيصبح عندئذ محوريا بعد أن كان هامشيا.

          القراءة بالألوان لها أهمية بالغة في توصيف الذهاب إلى العوالم المتعددة والمتنوعة، ثم الرجوع الدائم، والعود الأبدي إلى الموقع الأول، مهما نسافر داخل الألوان القرائية فإننا نظل مرتبطين بالتبادلات الفكرية والمعرفية التي تتقاطع داخل أذهاننا ونتواصل بها مع الفنون القرائية المتنوعة، إن القراءة بهذا المعنى هي تداخل في الوضعيات قد لا نستطيع بسهولة تحديد نقط الالتقاء بينها، وهذا فأل حسن لدينا، إنه تأصيل لعادة القراءة وديمومة لها، ففي الأمر خلق لنوع من الألفة والفضول والعادة، وكل هذه العناصر تساهم في توطين القراءة داخل العقل والنفس.

 

مقالات من نفس القسم