بالعين السحرية.. يُدرك الواقعى من الخيالى

عين سحرية تُطل على خرابة
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

شوقى عبد الحميد يحيى

 فى قانون الطاقة يقال أن المادة لا تفنى ولا تُستَحدث من العدم. وكذلك فى الإبداع، فإن الأدب الجيد لا يضيع من الذاكرة ، كذلك لا يستطيع المبدع أن يجلس فى صومعته، ويكتب، شيئا خياليا، بعيدا عن أرض الواقع، وتناول السابقين. مثلما قال الجاحظ “[1]الأفكار ملقاة على قارعة الطريق، المهم كيف نلتقطها”. وقارئ المجموعة القصصة “عين سحرية تُطل على خرابة” للقاص أحمد عامر. لا بد سيُدرك معنى تلك المقولة. فعلى الرغم من أن أى كتابة، بل أى إبداع لابد أن يؤول إلى الرؤية السياسية. إلا أن هذه المجموعة نستطيع أن نجد فيها التأويل السياسى أيسر من غيرها كثير، كما نستطيع أن نجد فيها صدى، وروح، لكثير من إبداعات من وضعوا الأسس للقصة القصيرة مثل يوسف إدريس وبهاء طاهر، وغيرهم..، غير أنها- رغم ذلك- تحتفظ لنفسها بشخصيتها المستقلة، حيث استطاع الكاتب فيها، أن يستخدم تلك الروح، ويبنى عليها ما يناسب العصر الذى كتب فيه قصصه. فإذا كان الإجماع الشعبى يعترف بأن الإنسان فى مجتمعنا، أصبح مصابا بالكآبة، وغادرته الابتسامة، وأصبح مشتتا فى داخله، ويشعر بالانفصام الشخصى، والوحدة، والصراع. فقد استطاع الكاتب بالفعل أن يصوغ قصصه بما يعبر عن ذلك، تصديقا لما سبق قوله-فى دراسات أخرى- بأن الشكل الأدبى هو الذى يحدد حالة المجتمع، مثلما كان التداعى الحر، وتفتيت الجملة، والتشظى فى الأفكار هو سمة الكتابة الأدبية بعد نكسة 67، وكشفها عن الكثير مما كان مخبوءً تحت السطح، فلا شك أن لكل عصر همومه، ومنغصاته التى يستطيع المبدع أن يقول ما يريد، دون أن يقع فى المحظور، ويترك للشكل أن يحدد أى عصر يريد الكاتب أن يتحدث عنه. مثلما نجد قصة “أحلام بالتقسيط” فى هذه المجموعة، والتى تتناول قضية هرستها الأقلام كثيرا، حيث ترجع إلى زمن فائت، ربما يرجع إلى تسعينيات القرن الماضى، عندما وقع الزلزال المدمر على مصر، حيث تهدم البيت، وكُسرت ساق الأب، وتطلب الأمر جمع الأموال، للمستشفى، وبعد الوعود الشكلية من الحكومة، خرجت الإبنة ليلتقطها صاحب العربة الحديثة. والتى يمكن أن نتقبلها من الكاتب، حيث نتصور عودة كتابتها إلى زمن متقدم من تاريخه الكتابى، رغم ما فيها من إسلوب الكاتب. وكذلك قصة “حادث سير لرجل مجهول” والتى تتوافق مع القصة السابقة، فى كونهما إعتمدتا على الوصف الخارجى للشخصيات، وهو ما نعتبره مرحلة سابقة. وإن كان قد خطا خطوة فى تقنية القصة القصيرة فى قصة “ثلاث شمعات وبعض الحلوى لعيد ميلاد الطفل” والتى يمكن أن نلمح فيها بداية الدخول إلى عالم النفس الداخلى للمواطن، والتى يمكن أيضا أن نعيدها إلى العقد الثانى من القرن الواحد والعشرين، حيث تشير إلى ذلك الإشارة {تبدأ الحكومة اليوم مناقشة قانون الإرهاب}. إلا أنها تؤكد على سلامة مسيرة الكاتب، وتطوره فى الكتابة. غير أنها تؤكد قراءة النماذج الجيدة ومعرفة بفن القصة القصيرة،  وهو ما سيتضح من قراءة قصصها.

كما أنه من الأقول المعروفة لدى العامة “خير الكلام ما قل ودل” المنسوبة خطأ إلى الرسول (صلهم). والتى يضاهيها “أعطنى تجاربك.. أعطيك حكمتى” وأتصور أن المبدع أحمد عامر قد تبنى هذه المقول، حين كتب مجموعته البديعة “عين سحرية تطل على خرابة” ذلك العنوان الدال على مجمل قصصها، حيث يضع قراءاته وتجاربه الحياتية، كإنسان يعيش فى مجتمع، ليصنع بوتقة، ويصهر فيها تلك الخبرات ليستخرج منها الرؤية، مثلما يصهر الصانع الورد ليستخلص منها الرائحة، وراح يضع كل لون فى قنينة (قصة) صغير تحمل عبق الحياة، فى المجتمع، وفى الكون. فجاءت القصص جميعها، تحمل عصارة الحياة، مركزة فى بضع سطور، لا تميل للفضفضة، ولا تقع فى الإيجاز المخل. إلا أن هذا لا يعنى أن الكاتب يتناول شخصياته من الخارج، ولكنه على العكس من ذلك، يعتمد كثيرا على الصراع النفسى، الذى يخلق العراك مع الواقع، العراك بين الحلم والأمنيات من جانب، والبيئة والمجتمع من جانب مقابل، وهو ما يخلق الكثير من الأمراض النفسية، والتى تعتبر مرض العصر، حيث تعانى الغالبية من العجز، والكآبة.

ففى قصة “عين سحرية تطل على خرابة” والتى منحت المجموعة اسمها، نستطيع أن نتلمس كل خصائص القصة عند أحمد عامر، بداية من غياب (الحدوتة)، بمعنى أننا لا نجد قصة متطورة، أو ملموسة، حيث تقف القصة على وصف للحالة، غير أن ذلك الوصف، يشمل الحركة الداخلية، التى تمنح القصة حركيتها. فنجد أن (الرجل) يتحرك بين منزله، والشارع، والأتوبيس، والعمل. ومن خلال تلك التنقلات، يحضر الزمن، غير مباشر. هذا من ناحية الشكل. كذلك من ناحية المضمون، نتبين منذ البداية انفصال الجسد عن العقل، أو المنطق، والذى يمكن أن يقودنا لتلك الحالة النفسية، التى يعيشها إنسان هذا العصر- أو هذا المجتمع-، حيث لا يملك إلا أن يسير وفق ما يسير الجميع، وكأنه مُساق، لا سائق، لذا .. كان الخروج عن الصف.. عمل من أعمال الشيطان {الرجل الذى حاول أن يسجد مع الجميع، فنهره الشيطان وقال له: لا تستقم معهم}. ليلقى من بداية القصة، والقصص جميعها –تقريبا- بتلك الرؤية المتسربة عبر القصص، ولتصبح هى النغمة الرئيسية، التى تدور حولها المعزوفة. ونتلمس الشاعرية فى الوصف، الحامل للحركة، الحاملة للزمن، من خلال رسم الصورة {هذا الرجل صحا من نومه مفزوعا، وخرج مسرعا دون أن يصفف شعره، وراح يجرى فى الشوارع متخبطا، فكادت قدمه تتحطم، وهو يتفادى الاصطدام بمؤخرة فتاة تركت يدها تحت حماية يد ولد أسمر}. لنتبين كيفية الحالة التى عليها (الرجل) من الاستعجال الذى معه خرج (دون أن يصفف شعره). كما يأتى وصف الشارع الذى نرى فيه بائع الفول، والبنت التى تتأبط الولد، حيث مؤخرتها التى لفتت نظر الرجل. ثم نغوص فى أعماق (الرجل) وهو وسط زحام الأتوبيس، حيث {يتفحص الأجساد وهو يبحث عن مدفن مناسب لجثته التى شيعها وحده أمس دون غُسل}. حيث تشير إلى الجوع الداخلى الذى يعانيه ذلك (الرجل)، والذى يأبى المجتمع النطق به، ويأبى الكاتب إلا أن يتركه لفطنة القارئ، الذى يعلم تماما، ما هى متطلبات الجسد. ولندخل من ذلك الإحساس الداخلى إلى الإحساس العام{حاول التخلص من هذا الإحساس كتغلبه على خوفه عندما استجاب لصاحب العقار المخالف الذى يفحصه} فندخل فى السلبيات المجتمعية، وتسلم المال وهو ينظر إلى الطوب المتساقط من (الأدوار العليا). ثم {هذا الرجل وصل إلى عمله متأخرا كالعادة}. ثم تحضر المعاناة الشخصية مرة أخرى حين يتأمل وجوه الزملاء ول{انتشل من بينهم وجه زميلته الأربعينية، وتوقف مع أحمر شفتيها ليستريح قليلامن البحث عن الشيطان}. لنلاحظ كلمة (انتشل) والتى تفتح المجال واسعا. ثم (البحث عن الشيطان)، وكأنه يقول.. هاهنا يكمن الشيطان، ثم يعود مرة أخرى للهم المجتمعى، عندما يقرأ فى الجريدة {شاب يقتل جدته المسنة ويسرق خاتمها وأموالا كانت تدخرها للحج} ليفتح لنا المجال كى نتأمل حال الشباب الآن، ولماذا لجأ لمثل هذه الفعلة، أللمخدرات، أم الرغبة فى الزواج، أم يريد المال ليعالج أمه المريضة، المهم أن الكاتب تركها مفتوحة، ليعيش القارئ فيها مثلما توحى بها ظروفه الخاصة. ويستمر النفاذ إلى عمق المجتمع، عندما يصحو الرجل (الثلاثينى) من نومه فزعا، لتصعقه الكهرباء عند ملامسة مفتاح الكهرباء، فيبحث عن {حقيبة الابتسامات التى طلبها من الله وهو ساجد فى الصلاة} لنتبين عمق الحالة التى وصل إليها الشباب (الثلاثينى)، دون زواج {ليوزعها صدقة على البؤساء}. لتخرج الكآبة من الحالة الفردية، إلى الحالة المجتمعية، خاصة عندما يبحث {عن كرتونة الأمل، ليوزعها على المحرومين}، وخاصة عندما يسمع جارته تتحدث عن زوجها فتقول{ هو عادل فى توزيع الهم بينى أنا وأطفالى}. ويقترب من زميلته، ويخبرها أن تليفونها ليس معه، لتقترب هى أكثر، وتخطف تليفونه وتكتب الرقم دون اسم، ولنعلم أن هذا (الرجل) يحمل جثته كل يوم ويهيم بها فى الشوارع، ثم{يقف ملتصقا بظهر زميلته الواقفة وراء نافذة غرفته التى تُطل على خرابة} وكأنه.. اخيرا.. وجد الشيطان، الذى يبحث عنه فى النافذة التى تُطل على خرابة.        

وتبدأ (الخرابة) فى الاتساع، والتى يراها الكاتب باتساع المجتمع.  ففى عهد مبارك، رفض صنع الله إبراهيم جائزة الرواية العربية فى حفل كبير، ليس استعلاء، أو استغناء، ولكنه الفشل الذى يعانيه –الشاعر- أو المبدع عامة- عن التحقق فى ظل طموح ورغبة فى الارتقاء بمجتمعه إلى السمو، لكنه يستضم بالواقع ، وسوءاته، ليخلق صراعا بين الداخل والخارج، بين الذات والمجتمع. فاستخلص أحمد تلك (الحكاية)، وصهرها فى بوتقته الإبداعية ليخرج لنا بقصة ” الشاعر يتعلم فن التنكر قبل أن يعتزل” والتى تبدأ بما ينشر جو البؤس، على المشهد، حين نرى الشاعر، وقد اختار كرسيا وحيدا، وطقطوقة تعانى الإهمال، خارج مقهى يقصده عمال البناء. وقد حجز الشاعر ستة أرغفة حواوشى.

وعلى المستوى العائلى نتعرف على ثلاثة من الأطفال، حاول الشاعر أن يعلمهم فنون الحياة{لكن الأصغرسقطت أسنانه وهو يحاول تخليص اللحم من حول عظام دجاجة صغيرة مجمدة اشترتها زوجته ليحتفلا معا بالعيد. ويستحضر الكاتب الواقع، عندما يتحدث عن الولد الكبير الذى، الذى أدمن الأغانى الهابطة، وليقول أن {الممثل الذى يسميه الشاعر بطلجيا، هو السيد المتربع على العرش الآن}. ففى هذه القصة نستطيع التعرف على شخصيات حقيقة تعيش بيننا، صنع الله إبراهيم الذى رفض جائزة الرواية العربية فى العام 1003، والمهرج محمد رمضان.

 ويحمل الشاعر أحلاما، ويدخرها كنهار يحاول به طرد الليل{الذى مات وترك جسده بين الأرض والشمس، وحجب القمر، فأصبحت الحياة ليلة طويلة، متواصلة}.

 ولنصبح أمام تجربة حياة واقعية استثمرها الكاتب، فى صنع القصة. حيث يعود الشاعر إلى زوجته، مستسمحا إياها فى استافضة القمر لليلة واحدة، حيث يستدعى حضور القمر، الرومانسية والشاعرية، التى تشاركه فيها زوجته، أو ما فرضه الشاعر على أسرته، فراحت زوجته، الطباخة الماهرة{تخلط النجوم بالفول والطماطم لنأكل من يدها طبخة فريدة. أو تجلب نسمات الربيع ورائحة البحر لتمزجها مع شرائح البطاطس}. ولنكتشف أن الإبنة الوسطى، تعانى السرطان، والتى أخبرها الطبيب بأن السبب هو المبيدات المسرطنة. إلى جانب حضور الهم الشخصى، حين يكشف أنه لم ينجح فى الوصول بناسه إلى القمر، بما يستدعيه من ظلال، وإيحاءات، وأنه يجلس فى البيت عاجزا، وصارحته ب{عملها الليلى الذى يجلب لهم المال}. فضلا عن معاناته الهم الشخصى، فى عجزه عن تحقيق حلمه، وحقه فى الحياة، والحب{ويتألم كل ليلة وهو يتعقب الرجل الذى أغرى جارته، …. إنه منذ عام يشكو للقمر وجعه، لأنه يحبها وهى لا تعرف}. وتنتهى القصة بالعودة-الذهنية- إلى المقهى ليدفع ثمن كوب الشاى، ويغادر قاصدا محل الحواوشى. ونعلم أنه رغم البؤس الذى يعيشه الشاعر، واسرته، مع الأحلام المتكسرة.

ولا يغيب القمر فى قصة “إبتسامة شاحبة لقمر مريض”، إلا أنه هنا، ليس بصورته الشاعرية، ولكنه متلصص، على حياة (فرد) من البشر، يعانى الوحدة، لتتحول القصة إلى قصيدة شعرية، تعرض لحظة ذاتية، يعانى فيها (السارد) الذى دخل عامه الأربعين، إلا أن مشكلته الشخصية، تتماس مع مشكلة الوطن الطارد، حيث يذهب زوج الجارة إلى الخليج، ويترك زوجته تعانى مرارة الجوع العاطفى، فلا تجد إلا فى هذا الجار.. ملاذها. ونتساءل نحن القراء، لماذا لم يتزوج هذا الشاب، ويعيش حياة طبيعية، دون أن يفكر فى الانتحار، أو يتنازل عن مفتاح الحياة المعلق فى رقبته، وأن يجد الماء الذى يمكن أن يطفئ ظمأه؟.

وتتنوع الصياغات، غير أن الهم كامن فى الأعماق. تطول القصة، وتنتهج السرد المتتابع المتصاعد، على خلاف غالبية قصص المجموعة، ويحاول الكاتب (الهروب) من المباشرة، متخذا “مخرج الطوارئ” ليجده أكثر بؤسا من الطريق المعتاد فى قصة “محاولات للهروب من مخرج الطوارئ”. حيث يعانى الموظف، الذى ينوب عن العمال فى لجنة الصحة والسلامة بالشركة، ويطلب قفل التكييف، لكن طلبه لم يلق استجابة من أحد. وقدم الأعضاء تقريرا بما تم من الإنجازات، فخرجت{الكلمات متقطعة، بدا كأنه يتقيؤها، طلاء الأسوار، تركيب بوابة جديدة بتحكم آلى، رفع أعلام على واجهة الشركة، مسجد جديد للعاملين، تركيب كاميرات مراقبة}. وبعد رفض رئيس اللجنة والأعضاء يقتحم السارد الحديث، متجاهلا الأعضاء المشغولون بالمشروبات الغازية، والمياه المثلجة, تحث دون إذن يلبغهم {أن مخرج الطوارئ غير صالح للاستعمال، وأنه سيكون بمثابة كارثة فى حالة المخاطر، طلبت إدراج ترميمه ضمن التوصيات وإزالة المخلفات وكراكيب تم تخزينها على جانبى الممر الآمن….. معدات الإطفاء لا تعمل بالكفاءة المطلوبة، تحتاج صيانة….} غير أن رئيس اللجنة يطلب منه كتابة مذكرة، للتنفيذ عندما تسمح الميزانية. وربما كان نتيجة ذلك، شعور السارد بالانتفاخ، والألم، ليذهب إلى الطبيب، الذى لم يلتزم السارد بتعليماته، وخرج إلى البلكونة ليدخن، وكأنه يبحث عن مخرج للهواء الطبيعى، رافضا تكييف الطبيب، غير أنه يرى الشارع مظلما، فى ذات الوقت الذى يستعد ابنه “سعيد” والذى اختار الكاتب اسمه ليخلق المفارقة، يستعد للمغادة، للسفر خارج البلاد، وقد جهز أوراقه بالفعل.

لنصبح أمام أكثر من إشارة، تقودنا إلى الرؤية الشعرية، والتى نرى أن القاص خبأها وراء الظاهر من الأحداث، والتى يمكن أن نجملها فى شيوع الظاهر دون الباطن، وأن ما يتم هو تغليف الشكل الخارجى، بينما الداخل يعج بالفساد. ويؤكدها إختيار القاص لممر الطوارئ تحديدا، والذى يمكن أن يعيدنا إلى ذكرى 1967. غير أن مولد الكاتب فى العام 1980، وما يعنى أنه حتى لم يكن موجوا فى العام 1973، وهو ما يجعلنا نستبعد ذلك الاستدعاء، خاصة أن قصص المجموعة، تتناول المشاكل المجتمعية فى الوقت الحالى، وهو ما يمكن أن نعيشه معه، خاصة إذا ما تأملنا تلك المشكلة الحالية، والتى بدأت من سنوات قريبة، وهى هجرة الشباب إلى خارج البلا، حتى لو كانت الهجرة غير الشرعية. إلى جانب شعور السارد بمتاعب القولون، وهو ما يستدعى القولون العصبى، والذى نعرف أن من أسبابه (الأفراد الذين يعانون من بعض الاضطرابات العقلية أو النفسية، مثل القلق أو الاكتئاب)، وهو ما يؤكده قول الطبيب {لا تقلق، بسيطة، إلتهاب فى القولون، المهم ترتاح وتبطل تفكير، إدى عقلك أجازة يرتاح شوية}. ولنعلم أن الكاتب قبل أن يكتب، بحث ونسج قصته وفقا للمنطق العقلى، ليتفق والمنطق الإبداعى. فالسارد يعانى فى العمل، ويعانى فى البيت، لهجرة ابنه (سعيد) والغير سعيد فى هذا البلد. فراح ينفث همومه فى السيجارة، والتى كانت أحد أسباب إلتهاب القولون.

ويستمر الوجع، وتستمر المعاناة فى قصة “أسباب غير مقنعة للعزلة” والتى تعكس المفارقة فى العنوان –أيضا- حيث نعيش كل تلك الأسباب (المقنعة للعزلة)، بعد أن كانت أسباب مقنعة للمغادرة، والهجرة. فنحن أمام شاب يؤدى كل واجباته، البيتية، والمجتمعية {أفتش جسدى باحثا عن مصدر للنزيف الذى أشعر به، أتبع تعليمات المرور، وأسدد مخالفات لم أرتكبها، أهتم بعملى دون ملل، أجلس وحيدا، أخطط لحياتى القادمة، منحت الحياة ولدين وبنتا، وزينت الحياة شعر رأسى ولحيتى باللون الأبيض}، فهو رجل مسالم، يسدد ما عليه، وما ليس عليه. لكنه يجلس وحيدا على المقهى، ويراقب المرأة التى لا تعتنى بالسيارات على الجانبين، نحو صندوق القمامة، هى لا تشبه امه، لكنها تستدعيها، فى وحدتها بعد أن غادر الأب، حين خرجت{حافية قاصدة بيت جدى العتيق، متخلية عن لقب زوجة لرجل ظللت ثمانية عشر عاما لا أعرف عنه شيئا غير اسمه}. وتتعرض هذه الأم التى كانت تكتم آناتها، وتسرب إليه ابتساماتها، لانفجار فى لانفجار فى المرئ، ليسأجر سيارة ويذهب بها إلى المستشفى، فتطلب منه الممرضة أن يبحث عن شئ يُنظف به ما تقيأته الأم من دم، ويضعونها على سرير مصطف بمحاذاة أسرة كثيرة لا يفصلها عن بعضها سوى ستائر مفتوحة على مصراعيها، كأنها تتعمد فضح الأجساد المتراصة والمرافقين. ويطلب منه الطبيب أن يحضر تذكرة دخول بيانات المريضة، بينما يطلب من زميله أن يحضر له  علبة كشرى صلصة زيادة. وتموت الأم، لتُوَلدَ فى النفس حسرة، وتُفقد اللسان القدرة على الكلام، على التواصل مع الآخرين، ليعيش السارد الوحدة وعدم القدرة الكلامية، لينفرد بحجرته و{جربت أن أنطقها بصوت مرتفع، لم تتجاوز الكلمات حدود حلقى، جربت كلمات أخرى، الآمان- المستقبل- العدل- الضمير- الحق- الحقيقة – الغش.. خرجت كلمة “الوطن” قوية من فمى}. وليخرج بها القاص من حدود الهم الشخصى، إلى الهم العام، هم الوطن، وما يعانيه.

ويستمر التوحد والوحدة فى قصة “عفوا.. الدخول من النافذة”، حيث نشعر فيها –وفى غالبية القصص- ذلك الانفصال الحادث بين الجسد والروح، فلا يشعر السارد- وأكرر.. فى معظم القصص- بجسده، وكأنه شئ منفصل عنه. فهنا نرى السارد يذكر{وأن وطنى لا تتجاوز حدوده باب غرفتى} ليندمج الشخصى بالمجتمعى، فصاحب البيت يطالبه بالإيجار المتأخر، وهو لا يستطيع، حيث {أخبرها بأن اللصوص سرقوا عمرى واسمى}. فمن هم اللصوص؟.

 {الحارس عَظَم للسائح العربى أمام الفندق وهشنى مثل ذبابة، عينى اليسرى تراقب الأجساد المتراصة أمام منفذ بيع الخبز) و{غامرت بإطلاق صوتى معارضا، امتدت يد سوداء انتزعت اسمى}. وتبقى اليد السوداء إشارة إلى العسكرى (الأسود)، حيث يتحول الطابور من الخبز إلى تأييد الزعيم. ولتظهر الشحاذة  البالغة من العمر عشر سنين، وتتجه إلى العربى البدين، ليسبها الحارس، دون أن يسمح لها بالوصول إليه. لتستدعى القصة قصة يوسف إدريس التى تتحدث عن الشغالة التى تحمل فوق رأسها صاجات الكعك، فترى الأطفال فى مثل سنها يلعبون فتقف للفرجة. ولتقف القصة، بكل ما فيها من زخم وصور، لتعلن عن أن الكاتب  لم يكتف بتجارب الشخصة، وإنما ارتكز على إبداعات السابقين.   

من الأمور المميزة عند أحمد عامر، أنه يصنع مصدرا للبخار يغطى الحجرة، فتتضبب الرؤية، ويتحسس القارئ الطريق باحثا عن ذلك المتخفى وراء الأبخرة، وهو ما يتضح بصورة أكبر فى قصة “العصافير تحلق ليلا”، فى الوقت الذى نعرف فيه أن هذا مخالف لطبيعة العصافير، وليتجه نظرنا إلى وضع العصافير الرمزى، لا الفعلى. وحين نواصل القراءة، وتتكشف الغيوم، سنلاحظ أن القصة –القصيرة- تسير على جناحين، يمكن أن نقول عن الأول، أنه الجناح الذاتى، وعلى الآخر الجناح الجمعى، وكلاهما يسير بصورة موازية. نرى فيها الجندى فى القطار الحربى، يمضغ الذكريات، والأمنيات، والأحلام –غير المتحققة، وعلى الأخرى يسير القطار برؤيته الرمزية، والتى تعنى الزمن، أى الانتقال فى الزمان، وليس الانتقال فى المكان.. فقط، لنتعرف على أحوال المجتمع –المدنى- الذى لا يشعر بذلك المسافر بالقطار الحربى. وعلى الرغم من التوازى بين الخطين، إلا أن خيطا رفيعا يمتد بينهما، ومن خلاله يحاول الجندى أن يعيش أحلامه. وكأنه يبحث عن تحقيق الذات.

ففى دوامة من التهويمات، المدفونة فى تداعى المعانى، يظهر برأسه الصراع الذى ينظر مستحييا فى {سيدى، أنا العبد الذى رمته السماء حرا، فوضعت حول رقبته دائرة، ووضعت العقل بين فخذيه}. لتلقى بمجموعة من الدوامات التى تحيط بالإنسان. حيث تبدأ الدوامة الأولى لتحيط بالإنسان فى وجوده الفردى، فتُنشئ أحلامه المكبوتة، ورغبته الدفينة فى إحتواء صدر البنت {جذبتها إلى صدرى}{أصبح جسد البنت أسيرا فى رأسى} {كانت هناك رغبة قديمة منسية فى الركن الرابع من رأسى). بينما تتسع الدائرة لتشمل محيطه العائلى{خرجت من ظهر أبى إلى المنفى، لفظنى رحم أمى عاريا}. وتتسع أكثر لتشمل وطنا بأكمله، حيث تتعدد صور السلبيات  التى تؤرق مضجعه، بدءا من القطار الحربى {مع أول إلتفاتة، ركلنى القطار الحربى}، {أحاول الاستعانة بالصبر والخروج إلى الحارات الضيقة}. ثم تتحدد الرؤية التى تكمن وراء تهويمات القصة ، كلها- {للحكام طرق غيرنا} و{وطن جميل). ثم يتم الربط بين الوجود الفردى، والوجود الجمعى، عندما {انتشيت بوجودها جوارى}. وحيث أنها ليست تلك الفتاة الحقيقية، وإنما هى الصورة المرسومة فى الذهن، ليصبح {رسمتْ دائرة محاطة بسور حديدى ذى رؤوس مدببة، وضعتنى فى منتصفها} ليست سوى الدائرة الأوسع، الدائرة المجتمعية، هى التى صنعت السور الحديدى ذى الأسنان المدببة، حوله، ليصبح مسجونا فى العديد من الدوائر الحديدية، والتى استدعاها، وجوده فى القطار الحربى، والذى تعددت أشكال الرفض، فى مسيرته، مثل الولد الذى يتبول من فتحته على الحقول الخضراء، والبيوت المهدمة. وكأن (الجندية) وما يستتبعها من تداعيات، تلفظ الخضرة، وتُهدم العمار، ليُضَمن الكاتب رؤية متخفية. ثم تتكشف الرؤية أكثر حين يلقى باللوم، لا على الشرطى، ولكن على من يدير عمل الشرطى{ رغبة قديمة راودتنى أن أصفع الشرطى فيصفع هو السادة}ثم { رميت التفاصيل من رأسى، وحملت الطفل الباكى، قلت:أضعه فى وجه السادة وأتركه يبول فوق أرجل علماء الاقتصاد، فليأخذ كل منا ما يريده بلا عناء، ولنكسر الدائرة}. ولينضاف كثير من المشاهد التى تشوه المجتمع، مثل {أنا اتلصص على شرطى المرور حين ينحنى ويرسم نصف ابتسامة لصاحبة السيارة الجديدة وهو يلتقط العملة التى طوحتها فى الهواء}{ ولا تطالنى  نظرات متبجحة من حامل اللحية} حيث تخلق (حامل اللحية) الانفصال بين صاحب اللحية وما يفعله من نظرات متبجحة. وكذلك، عندما تذهب رموز الرومانسية، أو إشارات الجمال إلى إشارات الفساد والتشويه{لا أدرى لماذا جذبنى العصافير وهى تحلق فوق برك المجارى، والقمر احتفظ بصورته فوق بحيراتها الصغيرة المتناثرة}. وتأتى النتيجة الحتمية، التى يتحدث عنها الواقع الفعلى، الآن .. حين تحل الكآبة وتكسو عظام الوجه {كانت تفتش عن سبب لتلك الخطوط المتداخلة الى احتلت جبهتى}. لكن الكاتب يرفض الاستسلام، غير أن رفضه، ليس وراءه مخرج، فتظل الأمنية، محبوسة فى الصدور، حين تنطق الأمنية {وإبعادى عن العصافير الغبية التى لم تحاول أن تحطم المصابيح لتكتشف حلول الليل} فيكون مصيره فى النهاية، أن يصبح “الجندى المجهول”.   

 وتتسع الدائرة أكثر لتشمل وجود الإنسان على الأرض{ لوح لى الخلود}، وليتحول الكون كله، بل الوطن كله، فى قبضة “القصة القصيرة”.

وعندما يفقد الإنسان حبه، يفقد نفسه، ويفقد الوجود من حوله. ومثلما عايشنا ذلك ال”سعيد” فى قصة ” محاولات للهروب من مخرج الطوارئ” والذى كان قد جهز أوراقه للمغادرة، فها نحن نتابع ذلك الذى يكمن وراء المغادرة، بعد أن تتضافر جهود الطرد (هنا) وجهود الجذب (هناك)، ليتم المحو، ويتم الفقدان، فنطالع فى قصة “وردة معتقلة فى كتاب”. فإذا كنا قد تعرفنا كيف تعددت سبل التعبير عن الهجرة إلى (بلاد الرمل). وتعددت سبل التعبير عن الحبيبة التى فضلت المال على الحب. إلا أنه وكما يقول الحاحظ بأن المعانى موجودة على (قوارع) الطريق. إلا أن المعالجة هى التى تميز كاتبا عن آخر. ونستطيع تبين تلك المعانى فى هذه القصة والتى تتناول الحلم الضائع، حينما لم يتزوج الشاعر من ملهمته، ليضيع الإلهام، مع ضياع الملهمة التى فضلت (الشيخ) العربى عليه، فلم يعد يجد غير الجلوس على المقهى، مشلولة يده اليمنى التى يكتب بها {واضعا يدى اليمنى فوق المنضدة، وقبضتى مكورة}، فلا يستعمل غير اليسرى، بها يُخرج السجائر، وبها يشرب فنجان القهوة، حتى لو كان الفنجان السادس. فيفقد السارد وجوده{اكتشفت منذ زمن أننى لست خالد منصور الشامى، اكتشفت صدقى أننى رجل يحمل بطاقة تحقيق شخصية مزورة لشاب قتل منذ ثلاثين عاما، ولم يهتم أحد بغيابه}.على أنه يجب ألا نغفل أن السارد له اسم فعلى (خالد منصور الشامى) أى أنه فى الأوراق الرسمية له هذا الاسم الثلاثى، بينما هو فى قرارة نفسه لا يشعر بوجوده، لذا تركه الكاتب دون إسم.

وتزداد الغربة، عن النفس، وعن الوجود، عنما سافر السارد إلى (بلاد الرمل) فيعثر على ضالته، لكنها تنكر ذاتها، فيناديها باسمها لترد {شيماء مين؟ أنا أم عبد الله.. أى خدمة؟}. لتتوه شخصيتها، كما تاهت شخصيته. فبينما كانت القصة، أو الرواية تتناول تلك الحالة، من حيث كيفية الهروب، والمعاناة التى يعيشها المغترب، فإننا–هنا- نجد أنفسنا أمام الاغتراب النفسى، والذى ينسحب من الضياع الشخصى، إلى ضياع الوطن، بصفة عامة، وكأن “بلاد الرمل” تسحب البساط من تحت قدمى الوطن.

وتستحضر قصة “زجاجة ملونة فارغة”، قصة الراحل بهاء طاهر، فى قصته “اللكمة” من مجموعته “الخطوبة” تلك التى دخل أحد المجهولين، على مكان عمل، ليتخير واحدا بعينه، ويلكمه، دون سابق معرفة، ويخرج كأن شيئا لم يكن. فهنا أيضا تنحصر الرؤية فى ذلك الذى قابله فى الشارع، وهو فى طريقه إلى العمل، وتعامل معه بعدوانية. فإذا كانت الرؤية فى قصة بهاء طاهر، قد تذهب بنا بعيدا، إلى حيث النكسة، كأحد الرؤى التى يمكن استخلاصها، بينما هنا تنحصر الرؤية فى الموت والحياة، وهو ما تسير إليه القصة. حيث يلعب الموت، الذى يطاردنا فى كل لحظة، دورا كبيرا فى استمتاعنا بالحياة، ويُفرغها من مضمونها، فنقف أمامه وكأننا فى طابور، كل ينتظر دوره{أنا الآن مأخوذ، كأننى معلق فى الهواء،لا أستطيع أن أقولها بعادية:”إنه الموت”لأننى لم أجرب الحياة، أمامى طابور يتحرك ببطء نحو دفتر الحضور} حيث تختلط الحياة بالموت، وبعد أن أصبحت زجاجة الذكريات .. فارغة { ولم أندهش عندما نزعت سدادة الزجاجة  التى ادخرت فيها أحلامى، ووجدتها فارغة}. وقد ركز الكاتب على الجسد، الذى هو السمة الظاهرة فى الحياة. وليصبح ذلك المُغيب عن الحياة، رمزا للإنسان، ذلك الذى غُيب عقله، وسأله فى الصباح عن الساعة، ثم يضربه، ويصرخ فى الشارع مشيرا إليه متهما{يتهمنى بأننى سرقت الوقت وحرمته متعة الموت}. فعندما يقلقنا العقل بأسئلته عن الوجود والعدم، عن الحياة والموت، وعندما تفرغ الحياة من كل ما نحب، يصبح الموت هو المتعة المبتغاه.

التقنية

من الأمور التى تُحسب للكاتب، إختيار العنوان الرئيسى، والعناوين الفرعية، لتتوافق جميعها فى وضع القارئ منذ البداية فى جو القصة، والأجواء المجتمعية التى يتحدث عنها.

ففى العنوان الرئيس للمجموعة، تدفعنا “عين سحرية” إلى إاستحضار التلصص، والتلصص يكون على شئ قريب منا، لكننا لا نريد مواجهته، أو نتلصص كى نداهمه. كما تدعونا “الخرابة” إلى المكان الذى تعف النفس عنه، أو المكان الذى لا نريد أن نلمس ما فيه. فالإنسان لا يدخل الخرابة بقدميه، لكنه يتلصص عليها، أو ينظر إليها من الخارج، حيث يتعفف من الدخول. فنحن أمام أشياء فى مكان نتمنى تنظيفه مما تراكم فيه عبر الزمن.

وكذلك العناوين الفرعية، أو عناوين القصص. فعلى سبيل المثال: الشاعر يتعلم فن (التنكر) قبل أن يعتزل. فالتنكر، أو الاختفاء، والإعتزال، يوحيان بعدم القدرة على المواجهة، وإعتزال ما هو محبب، أو مرغوب. و”وردة معتقلة فى كتاب” فالإعتقال هنا يلقى بظلال تُثير التساؤلات، وتستدعى أشياء بوليسية. و”المرأة التى باعت حلمها للصائغ المزيف” فبيع الحلم، والصائغ المزيف، يوحيان بالخدعة التى سيق الإنسان إليها. و “محاولات للهروب من مخرج الطوارئ” وما توحيه من الكارثة التى تستدعى الهروب، والخروج متعجلا من مخرج الطوارئ، فهو شئ غير عادى. وهكذا كل العناوين، التى تحمل من الشاعرية(السردية) ما يمكن أن تصنع قصصا قصيرة فى حد ذاتها، بما تُشعه من إيحاءات. وقد يرى البعض أن هذه العناوين طويلة، وتقرب المعنى للقارئ قبل أن يبدأ  القراءة، ولكن الرد عليه يأتى من خلال تأمل إسلوب الكاتب، والذى لا يعتمد الحكاية، وإنما فى أغلبها، تعتمد على توصيف الحالة، وتترك للقارئ أن يتصور القصة، فكان لزاما أن يمنح العنوان الحالة التى تُهيئ للقارئ عملية الدخول.

وقد تنوعت القصص فى المجموعة، بين الطول النسبى، والقصر غير المخل. غير أنه عندما أراد التجريب فى الأقاصيص التى أتت تحت مسمى “مشاهد عادية لا تستحق التأمل” والتى تستدعى مجموعة “مشاهد عادية لرجل وحيد” لأحمد أبو خنيجر، أقول أنها انزلقت – للتجريب-  إلى ما يسمى بال ق. ق. ج. أو القصة القصيرة جدا. غير أن أبو خنيجر لم يكتب قصصه ك ق. ق. ج. وإنما تميزت بلإيجاز فى الكلمات، والاتساع فى الرؤية، وهو ما فعله أحمد ايضا فى قصص هذه المجموعة، باستثنا تلك “المشاهد التى لا تستحق التأمل.

ففى قصة “ابتسامة شاحبة لقمر مريض” تلك التى تحتشد بالصور، والإيحاءات، الدالة، والتى تبدأ من بداية القصة {قررت اليوم أن أراقص روحى على لحن لا أحبه)، فى استغناء عن الكثير من الوصف للحالة، التى يعانى فيها السارد الوحدة، فيضطر إلى مراقصة نفسه، بل، وعلى لحن لا يحبه، وهو ما يخلق النشاز المنفر، والغضب المدفون، وعدم التواؤم مع الواقع، ومع النفس. وأيضا (سحبت سكينا من المطبخ، وحاولت أن أطعن القمر الذى يتلصص علىَّ من خلف زجاج النافذة} حيث تؤكد (من خلف النافذة) أن السارد مسجون داخل جدران المنزل، ولا يتحمل حتى ضوء القمر الذى تحول من النسمة الهادئة التى تنزل على القلب بردا وسلاما، ونراه على العكس من ذلك، يثير القلق، والعصبية، حتى أنه فى طريقه إليه، يحطم الزجاج، ويُحدث صوتا، تخرج على إثره الجارة. وكذلك {اتفقت مع قلبى  أن ينام قليلا ويترك فاتن مع زوجها، الذى ربما يضاجعها الآن} وكأنه يحول قتل الرومانسية، والهدوء النفسى، تحت إلحاح الحاجة المادية، ففاتن هى الحبيبة الغائبة، لكنه الآن، وفى هذه اللحظة، لا يفكر فيها كحبيبة، ولكنه لايتذكر منها إلا الحالة المادية، والمُلِحَة. ولنصبح أمام فقدان للحالة الروحية والتحول إلى الحالة المادية، فضلا عن سفر زوج الجارة، ورفضه العودة، وحاجة الجارة المُفتَقِدة لزوجها كل ليلة، وكذلك تحويل الحالة الروحية إلى حالة مادية(كما فى حالة فاتن). لذا كان القمر مريض، وكانت الابتسامة شاحبة، مثلما يقول ويُنبئنا العنوان.

 تميزت المجموعة، بتجاوز حدود الزمان والمكان، لتحلق فى فضاء المخيلة التى تنطلق بلا حدود، وإن استخدم الكاتب بعض الرموز التى تقود القارئ إلى ما يود أن يبثه من لواعج النفس. ففى قصة “العصافير تحلق ليلا” لا نستطيع الإمساك بزمن معين أو مكان معين، فالقطار يسير فى طريقه، لا ندرى إلى أين، أو فى أى زمن هو، والمناظر تتعدد، والرؤى تختلف، فنسرجع ما مضى، ونعيش الزمن الحاضر، ونعلم ما علينا، حين يحين الغد.  لينظر القارئ فيما حوله، وليتصور أن الكاتب يقصد مكانه، وزمانه، فتتسع الرؤية، وتتعدد بتعدد القراء.  

إذا كان الشعر يعتمد أساسا على لواعج النفس البشرية، حيث يقوم على العاطفة. وإذا كانت النفس البشرية، تعانى عندما تصطدم إحتياجاتها مع قيود المجتمع، ومع قصوره عن توفير تلك الاحتياجات، فى الوقت الذى لا تتيح فيه قواعد المجتمع للمبدع أن يتحدث عن شكواه بصورة مباشرة، فإنه يلجأ إلى أساليب الشعر من وصف وكناية واستعارة … وغيرها من الأساليب، ليعبر عن نفسه الحاضرة، فى كل ما يكتب، شاكيا المجتمع، متألما من عدم قدرته على تحقيق رغباته، ومتألما من قيود المجتمع، وصوره المُحفزة على الثورة عليها. ذلك ما نستطيع أن نجد عليه مجموعة “عين سحرية تُطل على خرابة” للمبدع الموهوب أحمد عامر تتقلب مع أمواجه، لتعزف منظومة الحرمان، وتتراقص على أنغام الوجع الناشب ليفصل الجسد عن الروح، فيعيش الإنسان، عدم التوافق، وغياب القدرة على الانسجام. مازجا بين الهم الشخصى، والهم العام، ليخلقا معا صورة إنسان هذا العصر، وهذه الحقبة، مستخدما الصورة الشعرية بكل أدواتها.

……………………………………

[1] – أحمد عامر – عين سحريىة تطل على خرابة –الهئية المصرية العامة للكتاب – إبداعات قصصية – 2023 .

مقالات من نفس القسم