الصحراء.. حُرَّة مُستقلَّة

محمد الفخراني
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

محمد الفخراني

هي ما هي عليه.

وهي كل ما يمكن أن نتخيَّله عنها.

هي كل الحقائق والشائعات والأوهام والخيالات التي تُقال عنها، وهي لا شيء من هذا كله.

لا يمكنك أن تُصادِف الصحراء فتَدْخلها هكذا مثلما تَدخل أيّ مكان، لا بد أن تقف بعضَ الوقت عند حدودها، تتأمَّلها، تُظْهِر لها الاحترام، تحاول أن تسمع منها، أو تحصل منها على إشارة، تستأذنها، تسألها عن الطريقة المناسبة للدخول إليها، هل هناك جُملة ما مثلًا لتُقولها، أو هل عليك أن تخلع حذاءك، أو تُقَبِّلها، بدايةً يمكنك أن تُلقي عليها السلام، أنت هنا من أجل سلام، أنت هنا صديق، لكنها لا تَقْبَل أصدقاء ولا أعداء، هي مكتفية، الصحراء ليست عدُوًّا ولا صديقًا، هي ما هي عليه، غالية وكل ما فيها غالٍ، ولن تَعْثُر أنت على ما لديها بسهولة، لا تمنح مجانًا، ولا بسهولة، وهي أيضًا لن تمنعك أن تحاول الحصول، لن تمنع عنك ما تستحقه.

روحها الوسيعة، لا يُشبهها أيّ أو أيّ، تعرف الصحراء بين الحضور من أول نظرة، لا يمكنك أن تخلط بينها وبين غيرها، لو لم ترها ستعرفها من صوتها، أنفاسها، صمتها، تعرفها أثناء مرورها بجوارك أو خلف ظهرك، تعرفها بحضور شخصيَّتها وألَقها وثِقتها الهادئة.

الصحراء.. هل كانت شجرًا وورودًا؟ ليس مُسْتَبْعدًا، هل كانت أنهار عسل ولبن وماء وعطور، هذا احتمال كبير، هل كانت كوكبًا لوحدها؟ من الممكن، هل لم تكن أيّ شيء من هذا؟

هي مَنْ وزَّعَتْ على الأرض أنهار العسل والماء واللبن والعطور، وزَّعَتْ الشجر والعشب والورد، فقط لتَتَخَفَّف، لتصير أكثر خِفَّة، أكثر حرية، وَزَّعَتْ كل شيء، فقط لتكون حُرَّة مستقلَّة.

 كما يمكنها أن تستعيد هذا كله من جديد.

هي مَنْ وزَّعَت بحور الدنيا على الدنيا؟

لهذا بها أثرٌ من كل شيء، هل لأن كل شيء كان هنا، معها؟

أكثر مكان يتواءم فيه الجِنّ والبشر والعفاريت دون أن يُزعج أحدهم الآخر، فقط لأنهم في الصحراء، تَفرض الاحترام على الجميع، أن يحترموا بعضهم بعضًا، لأنها الصحراء.. والصحراء حُرَّة مستقلّة.

لماذا تبدو الصحراء في كل مرة وكأن أحدًا لم يدخلها من قبل، تبدو كأنها مَنْ يَدْخل كل مَنْ يَدْخلها، ليست لأحد، عظيمة وكل ما بها عظيم.

تُغنِّي وترقص وتَعوي وتُصَفِّر وتضحك وتبكي، الوحوشيَّة، الناعمة، الساكنة، المتحركة، لها تنفتح العين والروح، وينفتح القلب، وهي ستذهب بكل شيء إلى أقصى نقطة فيه، تأخذه إلى مداه.

الصحراء واحدة من أغنى أغنياء الكون، في الوقت نفسه هي مُتجرِّدة، مُتقَشِّفة، هي من أكثر أماكنَ نعرف فيها قيمة كل ذرة في العالم، ونعرف منه أن كل شيء ليس أكثر من ذرة منتهية.

ربما الكون كله، يتسلَّل في وقت ما إلى الصحراء، يقضي فيها ليلة ليتخلَّص من أفراحه وأحزانه، يتخلَّص من كل شيء، ويُجَدِّد نفسه، لا بد أن للكون مكان يفعل فيه هذا، ومن المُتوَقَّع جدًّا أنه الصحراء.

الصحراء التي يمكن أن نضيع فيها بهذه السهولة، هي نفسها التي يمكننا فيها أن نستعيد أنفسنا بهذه السهولة، هي التي لا نعرف عنها شيئًا، تجعلنا نعرف الأشياء، وتمنحنا رؤية لأنفسنا والعالم، هي التي من أكثر الأماكن بُعْدًا، تجعلنا نقترب من جوهر الأشياء، وجوهرنا.

هي التي واحدة من أقدم الموجودات، تبدو في كل مرة كأنما وجِدَتْ اليوم، لا تشيخ ولا تَضْعُف ولا تَرْضَخ.

الصحراء المُستقلَّة، المنفردة بنفسها، المُتفرِّدة، لا تطلب شيئًا، ولا تحتاج، ولا تشعر أبدًا بالوحدة.

المُستقلَّة، حُرَّة المزاج، ليست مُتقلِّبة المزاج، تجعل من نفسها أحيانًا كتابًا غير قابل للقراءة، وأحيانًا كتابًا سهلَ القراءة، مليء بالعلامات والدلائل.

هي الكنز المكشوف غير القابل للسرقة أو الامتلاك.

ليس لها مفتاح ولا كلمة سِرّ.

هي نَفْسها مفتاحها وسِرّها.

وهي حكاية ممتدَّة قديمة لا تتوقف.

حُرَّة مستقلّة.. الصحراء.

مقالات من نفس القسم

محمد العنيزي
كتابة
موقع الكتابة

أمطار