الشعر حنين .. يسكن الذاكرة!!

موقع الكتابة الثقافي uncategorized 29
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

سمير سعدى

(1)

التجربة/ ماعرفش ليه/ كل ما ابدأ فى الدخول/ بيهزنى صوت المسيح/ ماعرفش ليه/ الريح معاند رغم إنى فى اتجاه الصح/ البكا مرغوب/ يخفف طعم لون الحزن/ آخر متاريسك ورق/ شهادة مكتوبة بدمك/ ف الحيطان مكسوفة ما عادت بترمى الضل/ الحيطان مكسوفة ما عادت بتستر حد/ الحل كامن ف السما/ تفرض خيوط من شمسها/ يمكن تشغل فى الفراغ شىء م الحضور!!
من نص التجربة، كتابة شعرية بالعامية المصرية، ذلك النهر الواسع صاحب الفروع والجداول التى تروى ذاكرة الوطن، من جنوبه فى أقصى صعيد مصر، إلى شماله فى نقطة مصب النيل فى البحر البعيد المالح!! 
غنية بلادنا بالتجارب الإبداعية الشعرية، الفصيح منها والعامى، ويأتى غنى تلك البلاد ومبدعيها من غنى ذاكرتهم الإنسانية المحتفظة بكل التفاصيل والأحداث والموروثات. أغان/ أمثال/ حكم شعبية/ قصص وسيرة وغيرها من الحكاوى التى مرت على تاريخ هذا الوطن، الممتدة من آلاف السنين والأزمان البعيدة، فتشت فى معنى هذا النتاج المبدع من الشعر فى مصر فلم أجد سوى مفردة (الحنين) هذا البئر المملوء بالجواهر والكنوز المخفية للشخصية المصرية قديمها وحديثها، ولم أجد أيضا معنى سوى الشعر “هو حنين يسكن الذاكرة”

وطرحه هو محاولة للوجود الكونى، وإثبات الحضور فى لحظة تمر كوميض الشهاب فى السماء!! إنه السؤال الأصعب فى حياة أى مبدع حقيقي: لماذا نبدع؟.. وما أقسى الإجابة وأصعب الطرح لمحاولة الإجابة بأي شكل كان!!
أنا أكتب فأنا موجود، وكائن وأشغل فى الفراغ حيزاً، أنا أكتب فأنا أعبر عن وجودى بشغل مساحات من الورق الأبيض بحبر الكتابة، إنها نقطه من الحبر فى بحر واسع من الإبداع والتخيل وضع كل مبدع نقطته فيه.. وما يبقى إذن هو تجمع هذه النقط فى البحر الواسع لكى يمكث فى الناس للنفع والفائدة وسوى ذلك يذهب جفاء، يذهب كما يذهب ريم الموج

لا أعرف متى بالتحديد تشكلت فكرة أن تكون كاتباً أو مبدعاً (شاعر بالعامية بالتحديد) العودة إلى 25 عاما مضت تعود معك الذاكرة للبدايات وعندها تعبر الذاكرة عند أسرار لم تكن تعرفها فى وقتها.. إنها الإرهاصات الأولى لفكرة التعبير عن ذاتك ومرحلة تكوين تجربتك الإنسانية.. وسنعود مرة ثانية إلى أصل الحكاية أو مفردة التفجير (الحنين) ذلك الوجع الشفيف العميق/ الرهيف/ الغميق/ المباغت/ المشاكس!!

(2)

“للشقاء لون الحداد.. وللحداد مرارة الصبار بينما طفل يغنى للصباح”
تلك كانت البدايات.. جغرافيا بعيدة فى الزمان والمكان إنها مدينة البدء: قنا، تبعد عن القاهرة 609 كيلو مترات جنوبا، محصورة بين الجبل الشرقى وجباله العالية الوعرة، وصحراء شاسعة فى الغرب إلى نهاية حدودنا، ويشكل النيل فى تلك البقعة هلالا جغرافياً طبيعياً، “ثنية” قنا الوحيدة بطول نهر النيل!! إنها الحضن الذى يلف بذراعيه النيل على هذه الأرض السمراء الطينية، ليشكل بطبيعتة ملامحمهم، وصفاتهم وطباعهم، وظروفهم الإنسانية، والأهم يشكل مشاعرهم تجاه الآخر والطبيعة والناس.. يحمل أهالى قنا طبيعة لا يمكن أن يحملها سواهم

الكثير من المتناقضات المتنوعة بين القسوة والحنية، والخشونة والرهافة الحسية، الصراع والحب الشديد، الدهاء والبراءة، الصبر الطويل والاندفاع المباغت، الصمت العميق والبوح الرائق العذب، الجد الصارم والكوميديا المفرطة فى العبث!!
من هذه البيئة يكتسب ابن قنا كل صفاتة وطباعه، وما عليه إلا أن يضعها فى إطار أو برواز، ويقدمه للمجتمع والناس كقنائى له شكله ومعناه وجوهره!! أنجبت قنا منذ القديم، الفرعون المهندس، والمبدع وصانع حضارة، لم يخلق مثلها على مر السنين. وأنجبت أيضا الشاعر والعبقرى الذى ترك بصمته على وجه الكون، والمشترك بينهما هو كيف للإنسان أن يوجد فى الحياة ويمر مرور العادي، دون أن يترك خربشته، وبصمته على صفحاتها!!
من هنا كانت البداية إذن وكان موضوع “الحنين الذى يسكن الذاكرة” ويبقى لكى يطرح نفسه فى اللحظة المناسبة!!
عشرون عاما كافية، لتحمل الذاكرة تفاصيل البلاد والناس.. عشرون عاما كافية، لفهم معنى ما تجود به أرض الجنوب لأبنائها الطيبين البسطاء.. عشرون عاما كافية لكى تختار ما تكتب وتدعى فيه المعرفة “صوتك بيوت/ أزهار وتوت/ أنا وانتي/ ف دروب البساطة/ حلم/ خايف يتولد/ علشان يموت!!” إنه الشعر!!
لم نقرأ فى كتب الدراسة والمراحل التعليمية شيئاً عن العامية المصرية، ولم نعرف أن هناك وجهاً آخر للشعر الفصيح فى النصوص المدرسية (اسمه شعر العامية المصرية)، ولم يدرج فى كتب المدرسة خلال فترة التعليم “إعدادي وثانوى” اسم بيرم التونسى، أو عبد الله النديم أو فؤاد حداد أو صلاح جاهين، بجوار أسماء صلاح عبد الصبور أو عبد المعطى حجازى وقبلهم أحمد شوقى وحافظ إبراهيم والبارودى وشعراء الجاهلية وما بعدها المتنبي وأبو نواس والحلاج.. وكأن للعملة وجهاً واحداً!!
هناك كانت أول إشكالية تقابلنا فى الحياة، وهنا الحاجة ملحة للكتابة بشكل يعبر عن ذواتنا وطبيعتنا، المكتسبة من الحياة. هنا ميراث من الغناء نسمعه ليل نهار فى الإذاعة وجهاز التلفاز بلغة أقرب إلى قلوبنا وسلوكنا ولا نعرفها من قريب أو بعيد في مناهجنا الدراسية ولا يتحدث عنها أحد رافضاً أو موافقاً / معها أو ضدها.. وكأن للعملة وجهاً واحداً!!

البدء كانت الخواطر والكتابة التى تميل إلى الوزن من الكلام المقفى حاملاً معانى عن الحبيبة والأرض والحرب والأم أحياناً.. كانت الخواطر دوماً تعليقاً علي الأحداث وكانت “سرية”.. إنه البوح المغلف بالخجل الصعيدى الإنساني!!
وبعد انتهاء المراحل الثانوية للتعليم ودخول مجتمع التعليم العالى تكبر مساحة المعرفة والتعرف علي الآخر في كل شيء.. إنها الحياة، نخرج من قيود وإلزام المناهج إلى براح أكبر يتيح لنا حرية أكبر واختياراً أنسب!!
فى القاهرة كان الاحتكاك الحقيقى بما يسمى الثقافة المصرية، سياسية كانت، أو أدبية أو فنية كالسينما والمسرح، وتتنوع الفنون فتتنوع المعارف وتتراكم الخبرات وتبدو الذاكرة فى الاحتفاظ بملفات المعارف بحنكة ومهارة، إنها مرحلة النضوج فى الذاكرة تحتفظ بالقديم وترتب الجديد وتفرز ما تحتاج إليه وما لا تحتاجه.. وتبقى دائما مادة (الحنين) هى المادة الفعالة لذاكرة تضع نفسها على طريق الإبداع ودخول عالم الكتابة الشعرية، واختيار شعر العامية بالتحديد!!

بعد مطالعة كل أبطال ذلك النوع من فرسان “العامية المصرية” القدماء والمحدثين من خلال معرض القاهرة الدولى للكتاب، الذى كان يقام فى جزيرة الأوبرا بالقاهرة. تعرفت على كتب الشعر العامى من صفى الدين الحلى، وبديع خيرى والمصري وبيرم، والنديم… إلى أحدث شعراء شباب يكتبون العامية من جيل السبعينيات فى تلك الأيام، عمر نجم، ومحمود الشاذلى، وماجد يوسف، وحمدى منصور، وغيرهم الكثير من مبدعى مصر.. ما أروع الاكتشاف!!، وما أبرع الوجه الآخر للعملة!!

تقرأ كل هذه الإبداعات، وتعمل ذاكرتك على حفر طريق وتمهد لك مساحة، لتنضم إلى تلك الكوكبة أنت وشباب جيلك من جيل الثمانينيات من القرن العشرين.

(3)

فى دهاليز الثقافة المصرية، وحاراتها الضيقة، والفسيحة، تسمح الفرصة لكى تتعرف على ناس تشبهم ويشبهونك، يحمل البعض منهم ملامحك الإبداعية وتحمل أنت تجاههم الحب (أول مرة تقابل/ واحد يشبهلك/ وتكون صحاب) إنه الشعر!! لا تحده الجغرافيا، ولا يخاف الغربة، ولا يجهل الأماكن ولا يشعر بالعزلة بين الناس

كانت ندوات القاهرة ومقاهيها أو تجمعاتها.. هى ساحة اللقاء – تعرفنا على بعضنا البعض بحب وحميمية كان العمر متقارباً والهم واحدا يجمعنا، والمناخ العام لا يفرق بيننا.. وليس لدينا معركة وهمية مع أحد، كان الهم هو القصيدة والشعر ولا سواهما!!
ما أقول بالضبط عرفت وتعرفت على أصدقائي: محمود مغربي وفتحي عبد السميع، وتعرفت على أيمن حمدى ومصطفى الجارحى ومحسن يوسف وأحمد على وخالد عبد المنعم وماجد يوسف وفؤاد حجاج ونهاد ناشد ومحمد الحسينى وناجى شعيب ومجدى الجابرى ومجدى السعيد وياسر الزيات ومدحت منير ورجب الصاوى وعمر طاهر وصادق شرشر وحجاج الباى وفنجرى التايه وأحمد فؤاد جويلى، وبعد عشر سنوات كان العشرات من شعراء العامية المصرية يعرفون بعضهم البعض من خلال أهم تظاهرات ثقافية أقامتها الهيئة العامة لقصور الثقافة فى منطقة الجمالية القديمة وخاصة قصر بشتاك ووكالة الغورى وحديقة الخالدين وغيرها من ليالى رمضان الثقافية، بالإضافة لما أنجزه الراحل الدكتور سمير سرحان فى تظاهرة معرض القاهرة الدولى للكتاب بعد تحوله إلى أرض المعارض بمدينة نصر، وبرنامج المعرض خلال عشر سنوات مازالت الذاكرة تحمل تفاصيلها الكاملة!!
كانت هذه التظاهرات الثقافية المنتج الحقيقى لكل الإبداع الشعرى المصرى فصيح، وعامى، نثر/ وقصة/ ورواية/ ونقد/ والعديد من فنون أخرى كالمسرح والسينما، وخلال عشرين عاماً تشكلت تجارب للمبدعين الشباب!! 
وتبلور المشهد الأدبي وأصبح أقل شاعر له كتاب أو كتابان من هيئة ثقافية أو دار نشر خاصة!!
ولكن الذي افتقدناه حقا كان المناخ العام الذى تستثمر فيه هذه الإبداعات وتأخذ حقها من الانتشار والتفاعل مع جمهورها المطروح له ومن أجله.. وانحصر في السنوات الأخيرة الأدب وخاصة الشعر وأصبح فى ذيل المادة الإعلامية المقدمة للناس عبر وسائل الإعلام الحكومية والخاصة كافة

فعكف المبدعون وخاصة المجيدين منهم على مشروعاتهم الأدبية وكما كانت البداية البعد عن وهم المعارك استمرت حركة حالة إبداعنا دون أدنى 
تركيز فى المقولات والنظريات والتنظيرات النقدية “الجيد منها وغير الجيد” عن انتهاء زمن الشعر ورهان زمن الرواية، كذلك الشاعرية ونفيها عن الشعراء، وأخيراً قصيدة النثر، وسواها وغيرها من المعارك (التكنو وهمية) _ إن جاز المصطلح _ هذه المصطلحات التى تمر مرور النار فى الهشيم كل فترة وحين فى جماعة الثقافة المصرية والعربية.

(4)

“يبقى الحنين/ الشعر/ يسكن الذاكرة”
وعلى الذاكرة أن تنتج ما تحمله من تفاصيل وهموم وتراث ومعرفة وخبرات لا تحملها أية ذاكرة على امتداد بلادنا العربية ليستمر إبداعنا المصرى الخاص محافظاً على هويتنا المصرية ذات الجذور الضاربة فى الإنسان/ النيل واهب/ الحياة لمصر/ هبة النيل/ والناس/ والشجر.

مقالات من نفس القسم