موزاييك الخوف الرمادي (كتابات العزلة)

أماني خليل
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

 تفرغت  صوفيا زوجة ليو تولستوي لعبقريته الفذة .وقامت بكتابة روايته الحرب والسلام أكثر  من سبع مرات, وتحملت بعد أن أحبته بجنون  كل افكاره المختلفة والتقدمية ،التي دفعت أثماناُ باهظة لها, وتحملت مسئولية البيت والأطفال والديون وترتيب حياته, صوفيا حملت ثلاث عشرة مرة، مات أطفالها وعاش منهم خمسة فقط, كل هذا العبء المهول والحياة الزوجية  الطويلة, التي تحملتها بحب وصبر كانت نهايتها ان هرب ليو من البيت  ومن زوجته ليموت في أحد محطات القطارات تاركاُ لها رسالة يقول فيها: “ما أنشده هوعالم من السكون والوحدة”.
لا يرغب الكاتب أن يثقل كتفيه شيء يتوق دوماً للتحرر, يرضخ لضغوط الحياة ولقمة العيش, لكن حلمه الأول هو الحرية والعزلة من اجل مجده الأدبي , وربما في سبيل الوصول لعزلته دهس أقرب الناس إليه وربما سحق نفسه وروحه ..

تقول فريجينيا وولف: “إذا أرادت المرأة ان تكون كاتبة فعليها أن تملك مالاً كافياً وغرفة تخصها وحدها” كان المال دوما مطلباً للبشر, أما العزلة لم تكن إلا مطلب الكتاب والأنبياء,وولف كتبت مقالاً طويلاً  عن الضغوط والحصار الذي  تواجهه المرأة في ظل عالم  الكتابة الذي تسيطر عليه الذكورية والأبوية والذي يعتبر منشوراً نقدياً في الحركة النسوية في القرن العشرين, إن امتلاك الظروف والمكان الذي يمنح المرأة  “عزلة” تساعدها على التفرغ للكتابة؛ شرط أساسي للإبداع, كثير ايضا من الكتاب المرموقين وفروا لأنفسهم ساعات من العزلة عن المجتمع, بالكتابة خارج البيوت على المقاهي, في الحدائق في غرف منفصلة, عليّات أو غرف سفلية, يعضهم اختار الكتابة فجراً او ليلا بعيداً عن التزامات الأسر وبكاء الأطفال ومطالبات البيوت.
المرور على الأطلال

أكتب عادة في مقهى قريب من البيت, مقهي فقير بسيط هادىء ضعيف الإضاءة , أحفظ اركانه جيداً مقابس الكهرباء لأشحن حاسوبي الشخصي,الموائد المريحة تحوطني, لكني أحب مائدة معينة, يفوح من الأرضية رائحة الخشب المدهون.هذه الأجواء محببة تقودني للكلمات, كأنها ترتب أفكاري قبل ان تنسكب على الورق. امر على مقهاي المغلق, وكأن بابا سرياً للكتابة أغلق في وجهي وكأنه كانت هناك شفرة سرية للسكينة فقدتها؛ ويحاول عقلي جاهداً أن يستعيدها..
 أمر على الديار ديار ليلى ..أقبل ذا الجدار وذا الجدار
 وما حب الديار ملكن قلبي.. ولكن حب من سكن الديار
ها هي ساعات من العزلة والفراغ تسيل في الفراغ ,المقاهي مغلقة  تماماً, المحال التجارية مغلقة من الخامسة, نشبه قلب أوروبا الذي يفرغ من البشر في السادسة ويعم الموت حتي يعود للحياة في السادسة صباحاً. وهي الملاحظة التي أذهلتني في زيارتي السابقة لبعض دول أوروبا الشرقية.
أسير في الشارع واتذكر عمال المقهى الذين يعرفون مشروبي المفضل”الليمون” المثلج, ثم تليه القهوة المضبوطة. محمود  و حسين .والمدير عصام, الذي يشبه جراح اعصاب من  فرط دقته , ويشبه أباً من فرط بشاشته, اتساءل اين ألقت بهم الأزمة بعد أن أغلق مصدر رزقهم, ألقي عليهم التحية  في سري وأكمل طريقي..

موزاييك الخوف

  أمام شاشة التلفزيون اجلس صباحاً اتابع الأخبار حول العالم. مع شاي الصباح, اتلمس دفء شمس الربيع التي تتسلل من النافذة الخلفية, لا جديد إلا عدادات الموت والإصابات التي تتزايد كل يوم حول العالم, طقوس الخوف توصيات التباعد الإجتماعي, أخبار صراعات شركات الدواء,بروتوكولات العلاج المختلفة, اتابع اخبار أقاربي المتناثرين في بقاع الأرض أطمئن على أحوالهم,على مواقع التواصل الإجتماعي صراع الصحة ام الإقتصاد.وكأننا علينا ان نختار بين الجوع والمرض, كل سبل الإنكار تفشل في انقاذي من براثن القلق والجزع على أسرتي الصغيرة. حين أغلق  التلفاز وأفتح حاسوبي استعداداً للكتابة أجد رأسي فارغاً منهكاً رغم الوقت الطويل المتاح, والذي ينصرف جزء منه في تطهير البيت وتعقيمه خوفاُ من شبح العدوى
 لماذا لا استطيع الكتابة؟
أقول لنفسي انني لست في معتزل كتابي, وكتابتي الأن ستحمل ثقل الأزمة وكانها كتابة السجون, أنا مسجونة في البيت .أنا هنا رغم ارادتي, خائفة من الإصابة لا أتحمل فكرة ان أنقل العدوى لأسرتي حتى لو ذهبت للتنزه على شاطيء البحر القريب , لا يمكن أن تكون العزلة القسرية هي نفسها العزلة الإختيارية التي يحلم بيها وينشدها أي كاتب,. أن يترك العالم وراؤه بارادته من أكل الكتابة أنا هنا حبيسة الخوف والجزع,  أغلق سجني الخاص على روحي كل ليلة. سجن من الخوف الرمادي ,أتخيل الموت راقداً على الأسطح ومقابس الكهرباء وأكياس الطعام في ثنايا الأحذية وعلى أوراق النفود.
 أفر من فكرة الإصابة بالنوم. وبترتيب مكتبتي وانجاز جداول قراءة تتحرك ببطء مخيف.
 لا أستطيع انجاز مشاريع مهمة مقالات مكتملة قصائد منضبطة,  وأنا أفتقد حريتي, شوارع مدينتي وجوه أقاربي وأصدقائي أنتظر وأنتظر,أيام تمر اشاهد انفراجات بسيطة في بلدان العالم, توصيات التباعد تقل, المقاهي تعود للعمل بربع طاقتها, الشواطيء يعود لها روادها قليلا قليلاً
شاهدت مسناً يونانياً يقول انا في السبعين ولا شيئ إلا البحر يحافظ على عقلي. أقول لنفسي إنها حكمة الحياة هذه اللحظة, لا يصلح الخوف ويحفظ هذا العقل من اضطرابه قدر رؤية البحر.آمل في سلامة أصدقائي وأسرتي. هذه العودة المضطربة للحياة بكل قلقها من عودة موجات من المرض, تشي لي بأوراق وقصاصات مليئة بمشاريع كتابة. اليوم وضعت حاسوبي تحت ضوء الشمس, وصنعت قهوتي, وفتحت ملفاً جوانبه زرقاء وكانها ضفتي نهر. وضعت بعض الهوامش كما كنت احب دوماً  ان أفعل وانا تلميذة في المدرسة أدرت تطبيق الموسيقى الذي افضله,وكأني كما كنت دوماً أبحث عن العلامات والإشارات الخفية أنتظر دعماً أورسالة لأجد فيروز تغني” بكره بيخلص هالكابوس, وبدل الشمس تضوي شموس”. ازيح مهدىء القلق الذي أخذه بين الحين والآخر ثم اغمض عيني وارتشف قهوتي وابتسم..

مقالات من نفس القسم