عاطف محمد عبد المجيد
لم تعد صورة شحاذ أيامنا هذه كما كانت عليه مثيلتها في الماضي: يوم أن كان يرتدي ثيابًا رثة، وربما متسخة إلى أقصى حد، متحركُا على عكازين اثنين أو على أحدهما ” وعلى كرسي متحرك في ما بعد ذلك بقليل “، رابطًا إحدى ذراعيه إلى عنقه أو واضعًا إياها في ” الجبص “، أو مُخفيًا إحداهما داخل الجلباب أو القميص الفضفاض الذي يرتديه، مما يوحي بأنه شخص مبتور الذراع.
كما لم يعد يسألك شحاذ هذه الأيام شيئًا لله، وهو في حالة حياء وخجل، ناظرًا إلى الأرض بعينين منكسرتين، باسطًا إحدى يديه إليك، داعيًا الله لك بصوت الباكي المأزوم، بألا يَضعك في أي ضيق أبدًا، وأنْ يتركك حيًّا ترزق لأولادك.
الآن يُقْبِلُ الشحاذ نحوك مسرعًا ناظرًا إليك كأنك أنت الذي تسأله ما هو سائله، مُصرَّا وملحًا ومصممًا على ألا يتركك من دون أن يأخذ منك ما يطلبه، فإن لم تعطه شيئًا نظر إليك نظرة المُحْتقِر، وربما أراد أن يَسُبَّك أنت ومن جاء بك إلى هذه الدنيا، بل وعائلتك بأسْرِها أنت طبعًا أيها البخيل!
لقد امتلك الشحاذ اليوم صفاتٍ أخرى غير تلك التي كانت لدى مثيله بالأمس القريب. كذلك، وكما تغيرت صورة الشحاذ، فقد تغيرت آليات مهنة الشحاذة، وتعددت وسائلها وطرقها، بدءًا ممن يحتلون أماكن بعينها قرب محطات المترو أو القطار أو الأوتوبيس، أو في شوارع حيوية في المدينة، جالسين فيها ليل نهار، لا يبرحونها طرفة وقت..مرورًا بمن يجلسون لبيع عُلب المناديل أو ما شابهها واضعين أياديهم بها في طريق العابرين معترضين سبيل سيرهم، وصولًا إلى من يَجُرُّون قعيدًا أو ” قعيدة ” فوق كرسي متحرك أو من يسندون مريضًا أو متظاهرًا بالمرض، متمارضًا يعني، حاملًا في جسده أنابيب طبية للتبول أو لغيره..وليس انتهاءً بأناس يبدون من هيئتهم أنهم أولاد ناس، يقترب الواحد منهم منك هامسًا في إحدى أذنيك طالبًا منك، بعد أن يروي لك، بإحكام، قصة وحوار وسيناريو ضياع نقوده وكل أوراقه، مبلغًا من المال يكفل له عودته إلى مسقط رأسه أو محل إقامته. هذا إن لم يقل لك إنه يريد جنيهاً ليشتري به ما يسد جوعه أو رمقه، لا سيما وأنه لم يذق طعم الأكل منذ أيام.
أذكر وأنا ما زلت أقطن قريتي أنه لم يكن يمر يوم إلا ويوقظنا من نوم القيلولة طَرْقُ شحاذٍ أو شحاذة على باب بيتنا طالبًا شيئًا لله محددًا ما يريد سواء أكان أرغفة خبز أو بعض الغلال ” قمحًا أو ذرة ” رافضًا رفضًا باتاً وقاطعًا أن تضع يدكُ في يده أي نقود.
طبعاً لم يكن بيتنا هو المقصود فقط من بين بيوت القرية بل كان هؤلاء جماعات يتحركون أفرادًا مُقسِّمين أنفسهم أو أنفسهن على شوارع القرية.هذا أو هذه لهذا الشارع، وهذا أو هذه لذاك.
لم يكن هؤلاء من سكان القرية بل كانوا من قرى بعيدة.أما المضحك فإن هؤلاء كانوا يبيعون ما يقومون بجمعه في نهاية اليوم لأحد سكان القرية. اللافت أن القرية على الرغم من أن بها عددًا لا بأس به من الفقراء المحتاجين إلا أنني لا أذكر أنني رأيت، لمرةٍ واحدةٍ يتيمةٍ، شحاذًا يجلس على قارعة طريق مادًا يديه لخلق الله سائلًا إياهم أي شيء.
أما أحدث تقنيات الشحاذة هذه الأيام فهو ما يمكن أن نسميه بالبيع بالإكراه.. والمتخصصون فيه ما هم في واقع الأمر إلا شحاذون لكنهم أنفاء، فبدلًا من أن يبسط إليك يده فارغة لتضع فيها ما قدَّرك الله عليه، يمدها إليك بعقد فلٍّ أو وردة إذا ما رآك بصحبة أنثى متخذًا آلية إحراج الذكر أمام أنثاه. أو يمد إليك يده ببالونة أو بلعبة أطفال إذا ما كنت في نزهة أنت وأسرتك متخذًا من شغف الأطفال بهذه الأشياء طريقًا لابتزازك وإخراج النقود من جيبك رغمًا عنك. هنا قد يضطر البعض للرضوخ لهؤلاء دافعين ثمن هذه الأشياء ليتخلصوا من وقاحة هؤلاء وثقل دمائهم التي فقدت اللون الأحمر.وأحيانًا يضطر البعض للشراء لتحسين الصورة أمام الآخرين حتى لا يُقال عنه إنه بخيل أو ” جِلْدةْ”.
ربما يجعل هؤلاء الشحاذون البعضَ بطرقهم هذه يكره أن يخرج هو وخطيبته أو هو وأسرته إلى الحدائق أو الأماكن العامة، لا سيما وأنهم يتوقعون مسبقًا أن يعترض طريقهم الكثير من أمثال هؤلاء الشحاذين، وعلى طريقة قاطعي الطرق، وهم يلحون ويصرون ويصممون على أن يَشْتري منهم ما يقومون ببيعه حتى وإن لم يكن هو في حاجة إليه.
لم يعد الشحاذ، في هذه الأيام، ينتابه الحرج أو الخجل مما يصنعه بل هو يعتقد نفسه يمارس مهنته هذه كما يمارس الآخرون مهنهم. وربما تظهر قريبًا نقابة الشحاذين الجدد ليطالب أعضاؤها بتحسين الأحوال المعيشية والاجتماعية للشحاذين، والمطالبة بوضع مهنة الشحاذ في بطاقة تحقيق الشخصية أسوة بالمهن الأخرى.
وربما جاء اليوم ليدق بابك خاطب لابنتك مفتخرًا بأنه شحاذ أبًا عن جد..معددًا لك ممتلكاته التي كسبها من عرق يده الممدودة أمام الناس، ليل نهار، ذاكرًا لك دخله اليومي من مهنته هذه، الذي قد يصل إلى الآلاف!!