محمد فرحات
وحين استوى الفتى، رقيق القسمات، دافئ السمرة، بهي الوجه والخلقة، دائم الابتسامة والبشر حتى في أصعب المواقف، وأشدها، يشع طمأنينة وسعادة يبثهما في كل من جالسه أو اجتمع به استبدت به رغبته الجامحة للمعرفة، كما استبد به العشق من قبل، وفي البداية كانت صحبته للأكابر يرتشف من علومهم، وينشأ تحت أعينهم ليتعلم من لحظهم قبل لفظهم، تعلم القرآن وأصول تجويده على يد الشيخ فايد، ربيب سيدي الولي أبي جمالة، وصفيه. ثم تخرج في قسم اللغة العربية، ليعين مُعَلِّمًا للعربية، كان الشيخ سعيد سليم،
-أتذكر هذا الاسم؟!
-…حَسَنًا جِدًّا …اهنئك على تلك الذاكرة الجيدة الغير ملتبسة على غزارة الأحداث وكثرة الشخوص.
-نعم…هو هذا الفتى الذي استغرق بكليته قارئا للقرآن يوم انتقال ولي الله السيد العيساوي..
وعلى ضعف بنيته ورقة جسده كان فولاذي الإرادة والتصميم، صاحبه الشيخ الشاب الأستاذ حسين جلال حفيد الشيخ ولي الله محمود أبي جمالة، والمتخرج في قسم الجغرافيا والمعين مُعَلِّمًا في معهد الشهداء الأزهري الثانوي… كلما نزل الشيخ أحمد الصعيدي إلى البلدة، اجتمعا به وارتشفا من جمال رحمته، وجلال معرفته، كان الشيخ لايبارحهم طيلة إقامته ولايبارحونه…تطول بهم المناقشات والقراءات لكتب أصول التصوف خاصة (الرسالة القشيرية)، و(الإحياء للإمام الغزالي)، أمدهم الشيخ ب(أنوار الحق) لشيخه الجليل سيدي عبد المقصود سالم، وأوصاهم بقراءتها قبل الشروع في حضرتهم البندارية…
وحين يغيب الشيخ يبادر الشابان سعيد سليم وحسين جلال لزيارته بالقاهرة، والإقامة بمنزله وسط أولاد الشيخ، ومريديه…يصحبهم في زيارات حَمِيمَةٍ لمقامات آل البيت مُعَرَّفًا إياهم برجال الله، وخاصته، وأوليائه …
تتآزر معارف الشابين المباركين، وتتكامل جهودهما، ليتميز الشيخ حسين جلال بحنجرة ذهبية ورثها عن أسلافه الطيبين، فذاع صيته كمنشد لا يشق غباره، يأخدك على أجنحة الشجن المنغم لضفاف العشق، ويصاحبك رَاحِلًا في بحاره.
ويتميز الشيخ سعيد بدروسه، وخطبه الرشيقة الجامعة بين تأصيل العلم ورصانته، وتذوق المحب ووجده…
وكلاهما يصبحان من أعلام البلدة وأجوارها ومن أهم مصادر الفتوى، وتعليم الناس الخير…
وبمرور الأيام وبصدق النوايا وإخلاصها يحيط بهم شباب القرية بل، وبعض شيوخها ليمثلوا جِيلًا جَدِيدًا من أجيال البندارية الأحمدية.
***
تزاحم الأحمر، والأصفر، والأخضر بنبضات متقطعات، منفصلات من ثرياتها المتجاورات السابحات بأثير مسكي يفوح عَنْبَرًا وصندلًا، وضوع زعفران وعود، تثير نيران أعواد البخور ومسحوقه حنينها نحو دورها الناءيات وجبالها الشُّمّ البعيدات.
وأصوات مديح، وإنشاد صادحات تحار آذان الهائمين بمقامات أنغامها حيرتهم بدروب الطريق، ومسالكه.
وتلال متراكمات من حبات حمص كن يستجرنَّ من نيران أرسلتها أفران تحميصهن، تزاحم حيالها الغاديات وصغارهن، تنادي بشذاها الشهي “قد شفني الهوى!”.
وأواني الخير، وأرغفة العطاء بخيام الأنس والدفء تجمع العشاق ضاحكين باكين وكُلٌ قانع بحاله.
ترحب مآذنه الثلاث، وقبابه الثلاث بالزائرين الوافدين من كل حدب وصوب.
وكاسات ألوان الشربات تزاحم ألوان الكهارب في السما، وخيمة تحلق بها المحبون حول شيخهم بميدان السيد أحمد البدوي بجوار مسجد البهي تخطب مئذنته العتيقة في الجموع بعدما حمدت ربها ووحدته، وسكن بي السيد واتخذ ساحتي خلوة، مازالت الأحجار تذكر فمال الخلق قد نسوا…حينها كان اسمي مسجد البوصة حين جاورني من اتخذوا صناعة البوص حرفة…لتبكي مئذنة جامع سيدي عز الرجال العتيقة، بأول شارع خان، …ولا يفوتها الرد على خطبة مئذنة البهي، ” إلا أنني أقدم منك فقد نالت منك يد التغيير والتجديد مِرَارًا، أما أنا فأقدم المآذن بمدينة البدوي قاطبة…”
وبخلف مقام السيد ضحكت أحجار *السبيل الأحمدي من ذلك الجدل الدائر بين المئذنتين، ليردف قائلا: ” لله الحمد أني من غير مئذنة فأنا مجرد طابقين، ولكن انظروا إلى زخارفي ، وتلك الشبابيك الخشبية المعشقة المتقنة فلما تولى الخديو عباس حلمي أمر بتشييدي لإمداد زوار سيدي البدوي بالمياه وكان طابقي الثاني كُتَّابًا لتعليم الصبية القرآن فمن قد شَرُف بالاقتراب مثلي من مقام سيدي فليفخر كما شاء…”
ليقاطع الْجَمِيعَ صَوْتٌ جَهْوَرِيٌ غاضِبٌ …
-أنا كُنْتُ أقرب منك!! كُنْتُ مُقَابِلًا للقبة الأحمدية ذاتها…ألن تتوقف عن مباهتاك الجوفاء …
ليهمس السبيل الأحمدي…
-صدق سبيل علي بك الكبير …ولكني يامولاي اتحدث عن ماهو كائن كُنْتَ أقرب بالفعل مني ولكنهم نقلوك بَعِيدًا وضاعت معظم أحجارك التي أحضرها رجال علي بك الكبير هل تجادل في ذلك أَيْضًا؟
– وهل يلام مثلي على جحود البشر…بعدما رويت ظمأهم، يكون رد جميلي نهبي، ونهب ما وهبه لي سيدي علي بك الكبير…
بتأثر شديد يبكي السبيل الأحمدي…
-كُنْتَ بركة سيدي مجاهد حين بُشِرَ علي بك الكبير بالرئاسة والمشيخة وهو هارب طريد…ولما صدقت بشرى سيدي مجاهد وسع جامع سيدي البدوي وأمر ببنائك…
لترد عليهم مئذنة سيدي عز الرجال بنبرة لاتخلو من مسحة حزن …
-هي الأيام في إدبارها، وهل كُنْتُ أتوقع يَوْمًا أن تحجبني مثل تلك العمائر والبنايات الخرسانية الخالية من أي مسحة جمال، بل المتباهية بقبحها وغبائها…
لترد عليهم مئذنة البهي..
-لا تنغصوا على أنفسكم…افرحوا بقدر الله أيما كان …ارفعوا أصواتكم بالإنشاد فهي رجبية سيدي القطب الصمداني السيد أحمد البدوي…فالأسبوع أسبوع عيد.
***
وبخدمة سيدي أحمد الصعيدي بجوار جامع البهي برجبية سيدي أحمد البدوي، تحلق الأحباب جميعهم وقد هاموا بإنشاد يصدح به الشيخ، وهم يرددون مَقَطَّعًا منه بين الحين والآخر…
ليست الوجوه بغريبة عليكم تعرفون معظمهم، وكان على رأسهم الشيخ عبدالحليم طولان، والشيخ سعيد سليم، والشيخ حسين جلال، وغيرهم الكثير…
وحينما فرغوا ظهر فجأة، وكأنما نبت لحينه من طيات الأرض يلبس جِلْبَابًا غير مهندم، نظيف، وطاقية بيضاء، ونظارة طبية مستديرة العدسات، ومع ضعف بنيته ونحوله، كان مشرق الوجه، منير الطلعة، ولما وقعت عين سيدي أحمد الصعيدي عليه استبشر به لسبب لا يعلمه أحد، فالرجل غريب عنهم، لا يعرفه أحد، والشيخ نفسه لم يسبقهم لمعرفته من قبل.
فقام الشيخ وأوسع له المجلس، وأجلسه بجواره…
-كنت أبحث عنك من زمن بعيد؟
-وأنا كنت أنتظرك من زمن ليس بالقصير…
-خشيت أن يفرغ العمر دون مقابلتك ولو مرة…
“ومع كل دورة زمن كنت أمر من هنا، ولكني لم أسعد بحضرتك ولو مرة، حتى حان الوقت أَخِيرًا…”
شرع الضيف بالحديث بعد أن استغرق المجلس في صمته المتأهب لسماعه، حدثهم بما كان وسيكون، بظاهر الشرع مُسْتَشْهِدًا بالآية القرآنية، رابطًا بينها وبين حديث يحرص على ذكر سنده كَامِلًا، ثم يشرع في تخريجه، والحكم على درجته، ثم يربط ذلك كله بأحوال العباد، وأفعالهم، ثم إشارات لطيفة لما خفى عن الأنظار والأفهام…
فجال بخاطر الشيخ عبد الحليم طولان ” وماذا عليهم لو استعانوا بأمثال أولئك الأفذاذ في الإذاعة والتلفزيون لتعميم الاستفادة منهم…” كان مجرد خاطر لم يحدث الشيخ عبد الحليم به غير نفسه. فنظر إليه الوافد الغريب، وخاطبه بعامية:-
-بقى عايز تفرج علي الخلق؟!
فبهت الشيخ عبد الحليم طولان وخاطبه محرجًا:-
أبدًا…أبدًا يا عم الشيخ…
ليبتسم الشيخ أحمد الصعيدي ابتسامة العارف بما حدث.
وحينما لاحظ الوافد استغراق المحيطين به، وانبهارهم بحديثه، تلعثم مُخْبِرًا إياهم…
-أ أ أ عندي بنت اسمها فاطمة بتحفظ القرآن في الأزهر…ثم ابتسم وغاب عن الحديث وصمت…
ليمر أحد الباعة بصندوقه الزجاجي، ومحتوياته من البسبوسة، والهريسة وغيرها، فأمره الشيخ أحمد أن يمر على كل من في الخيمة مُوزعًا عليهم منها…ولما وصل للوافد لم يمد يده، فأخذ الشيخ قطعة هريسة وأعطاها له، فتحرج الوافد، وأخذها بيده بدون أن يأكلها، أو تزايله تلك الابتسامة الخجولة…
انشغل القوم بتناول ما بيدهم من الحلوى، وحينما بحثت الأنظار عن الوافد لم تجده وكأنه تبخر في الهواء، أو ابتلعته الأرض، وسط دهشة الجميع…وحين تساءل الجميع بادرهم الشيخ قَائِلًا…
-الحمد لله أن أذن لنا الله برؤية أحد أبدال الأرض…
فكبر الجميع، وحمد الله، وأثنى عليه…
لينعقد مجلس العلم، ويبدأ الشيخ سعيد بقراءة كتاب (الإحياء) ويقوم الشيخ أحمد بالتعليق على ما شاء من فقرات بما حمله من غزير علم ورثه عن سيدي السيد العيساوي، ويتناقش الأحباب بإضافة تعليق أو استفسار…
ثم تقام حلقة الذكر…فينتظم الجميع في صفوف يحرص الشيخ على اعتدالها وتوافق حركاتها، فتراه يتجول بين الصفوف مُلَاحِظًا ومُنَظِمًا.
و بفراغ حلقة الذكر توزع الموائد ليتناول الجميع طعام العشاء.