طيب..ما العمل؟ “لا تصرف كثيراً من الوقت بالتأمل في مشاكلك، ولكن عوّل علي وعيك الباطن أو ما سماه ووردزورث “السلبية الحكيمة” إنك تحتاج إلي فلسفة الزّن لحل مشاكلك، فهذه الفلسفة من الفلسفات المتبعة ، ولكن أتباعها تعلموا بالفطرة ما عاد عليهم بالنفع فنشار الخشب والنحات وراقصة الباليه هم في الحقيقة يطبقون تعاليم الزّن دون أن يسمعوا عنه” هذا ما يقوله لنا راي برادبيري في كتابه” الزّن في فن الكتابة”.
عنوان صادم كما وصفه برادبيري بنفسه، وقد اقترح علينا قراءة كتاب “الزّن في فن الرماية” وهو من تأليف يوجين هيرجل، حيث سنجد فيه نفس الكلمات التي بدأ بها حديثه “العمل، الراحة،عدم التفكير”.
ويوضح برادبيري الفكرة قائلاً: “العمل الجاد يهييء الطريق إلي المراحل الأولي من الراحة التي يقترب فيها الشخص من المرحلة التي سماها جورج أورويل عدم التفكير”، ولمزيد من التوضيح يقول: “إن ما يجلب لنا التوتر والاضطراب هو عدم المعرفة أو الإحجام عن محاولة المعرفة، وعلي النقيض فإن الخبرة والمعرفة التي نكتسبها من العمل تمنحاننا ثقة جديدة هي الطريق إلي الراحة، تلك الراحة المفعمة بالحيوية”.
يتحدث برادبيري في الفصل الأول عن أهم العناصر في تكوين الكاتب من وجهة نظره ويقول إنها اللذة والمتعة “أنت لديك قائمة بكتّابك المفضلين، فكّر بكل هذه الأسماء، لقد عرف جميعهم متعة الخلق، لقد لقد عرفوا المتعة في عملهم. لا يهم إذا ما جاء الخلق صعباً هنا أو هناك علي طول الدرب، أو ما هي الأمراض والمآسي التي لامستهم في حيواتهم الخاصة. الأشياء المهمة هي تلك التي مرروها لنا من أيديهم وعقولهم، الأشياء التي تمتلئ حدّ الانفجار بالقوة الحيوانية والحيوية الذهنية.إنهم يبلغوننا عن أحقادهم ويأسهم بشيءٍ من الحب”.
وفي فصلٍ عن الإلهام بعنوان ساحر ولطيف هو “كيف تطعم ربة الإلهام وتستبقيها” يتحدث برادبيري بأسلوب مشوق وفريد، وفي خطوات عملية وواضحة، عن الكيفية التي “تنمو بها ربة الإلهام” حيث يحدد لنا “نظاماً غذائياً لوعينا”.
يحثنا برادبيري أن نقرأ الشعر في كل يوم، وأن نهتم كذلك بكتب المقالات وأيضاً القصص القصيرة والروايات، فالأمر يبدو له أنه ” ركضٌ لا يتوقف خلف الأمور التي نحبها”، و”مشي طويل في أي وقت داخل المكتبات ومتاجر الكتب”.
ثم يوجّه هذا السؤال الهام والكاشف قائلاً: “هل كتبت بما فيه الكفاية لكي تكون مسترخياً وتسمح للحقيقة بأن تنبعث منك؟”، ويسأل أيضاً “متي كانت آخر مرة كتبت فيها قصة قصيرة حيث حبك الحقيقي وكراهيتك الحقيقية خرجتا بطريقةٍ ما إلي الورق؟ متي كانت آخر مرة تجرأت فيها علي إطلاق تحيّزاتك العزيزة حيث تضرب الصفحة مثل سهمٍ من برق؟ ما هي أفضل وأسوأ الأشياء في حياتك، ومتي ستتجرأ للهمس بها، أو الصراخ؟”.
هذا النوع من التقديس للحقيقة يعتبر أحد الركائز الأساسية للكتابة الأصيلة والجميلة،وهو ما تحدثت عنه أيضاً الروائية آن باتشيت في كتاب لماذا نكتب ( وهو الكتاب الأول لمشروع تكوين للكتابة الإبداعية، والذي أصدر أيضاً هذا الكتاب الذي نحن بصدده)، تقول باتشيت:”أنا شخص متمحور حول الحقيقة ،أعرف بأنني فيما أكتب سأستمر في القول لنفسي بأن تقول الحقيقة حول كل شيء”.
وبالعودة مرة أخري للحديث عن الفصل الأهم في الكتاب، والذي يحمل نفس عنوانه “الزّن في فن الكتابة”، نجد أن برادبيري يتحدث مجدداً وبشكلٍ متواصل عن الحقيقة والتعبير عنها، حيث يؤكد لنا أن “جميع القصص الجيدة تشترك في كون الكاتب تفرّد بكتابتها من حقيقته الخاصة”، ويخاطب القاريء لافتاً نظره إلي “الشخص الذي لا بديل له في العالم، ذلك الشخص الذي لا توجد منه نسخة أخري، إنه أنت”.
وفي الفصل الأخير نجد تنويعاً إبداعياً لبرادبيري علي هذه الفكرة الجوهرية نفسها من خلال قصيدة له بعنوان “أنا ما أفعله ولذلك خلقت”.
يقول فيها: “ستحفر عميقاً حتي تجد التعاليم اللذيذة هناك/ عندما خلقك الرب وطبعك لتري الحياة : اذهب من هنا ! افعل هذا! وافعل وافعل! وافعل شيئاً آخر! هذه النفس لك! كُنها!
وما هذا؟ أتبكي علي صدر متّقد/ أليست هناك راحة؟ لا، بل فقط الرحلة إلي نفسك.
وحتي وعلامات الولادة تتلاشي/ في أذن الصدفة تتلاشي الآهات، وترسلك كلماته الأخيرة إلي العالم:
لست أماً، لست أباً، لست جداً/ لا تكن غيرك/ كن نفسك التي خلقتها في دمك”.
…………………..
*نشر في جريدة القاهرة