عندما قرأت الجزء الأول فى طبعة خاصة مميزة من مختارات الكرمة، لم أختلف أبداُ على أننا أمام وثيقة اجتماعية خطيرة، وصفحة هامة منسية من حياة المهمشين، أحسب أن من يسرد التاريخ الإجتماعى للمصريين، لا يمكنه أن يتجاهل هذه السيرة الذاتية المؤثرة. كان فكرى الخولى ( 1917_ 2000) معتقلا فى سجن الواحات فى العام 1962، وظل يسرد لرفقاء المعتقل تفصيلات معاناته، ومعاناة عمال مصنع المحلة للغزل والنسيج، حياتهم الشاقة القاسية، وأولئك الضحايا الذين راحوا، بسبب عدم وجود أى اشتراطات للأمن الصناعى، فالتهمت الماكينات أذرعتهم، أو أفقدتهم السيور حياتهم، أو حطمت المواكيك ( جمع مكوك) الطائرة رؤوسهم. يُروى أيضا أن الخولى، وقد وجد تشجيعا من زملائه، كتب هذه السيرة المؤلمة على ورق البفرة، وعلب الكبريت، ووريقات علب السجائر، وقد تم تهريب تلك القصاصات من السجن، لتجمع فيما بعد فى كتاب صدر الجزء الأول منه فى العام 1987.
لكننا نلمس بوضوح فى مقدمة الكتاب التى دبجها الصحفى والروائى الراحل صلاح حافظ أنه ربما كان أكثر المتحمسين لنشر هذه السيرة، يعتبر حافظ أن “الرحلة” عملا غير مسبوق فى تاريخ الرواية العربية، لأننا لم نقرأ من قبل رواية بقلم فلاح أو عامل، كل ما قرأناه كتابات لمثقفين يكتبون عن العمال أو الفلاحين. الحقيقة أننى لم استرح أبدا لهذا المدخل رغم إعجابى الشديد بما كتبه فكرى الخولى، فليس صحيحا أن المرء هو أفضل من يكتب عن نفسه، وليس صحيحا أن ثقافة عبد الرحمن الشرقاوى مثلا تجعل من رواية “الأرض” أقل إقناعا من عمل كان مفترضا أن يتصدى فلاح بسيط لكتابته أو لإملائه بشكل مباشر. هذه الرؤية تخلط خلطا مزعجا بين مادة الواقع، ودور الفنان فى تحويل هذه المادة الى فن أو عمل أدبى. المادة والتجربة المباشرة، حتى لو عاينها الكاتب أو الفنان بنفسه، لا تكفيان أبدا، وموضع الفن هو فى عمل الفنان على المادة، لا فى المادة الحياتية نفسها، والتى قد تشكل أهمية مستقلة فى علوم الإجتماع الأنسانى، أو التاريخ، أو حتى فى كتب السيرة الذاتية المباشرة، كلها أمور هامة وخطيرة، ولكن الفن، وفن الرواية بشكل خاصة أمر آخر تماما. الواقع هو الحجر الذى يُصنع منه التمثال، بدون هذا الواقع لا تمثال، ولكن الفن ليس فى الحجر، وقيمة التمثال ليست فى الجرانيت، ولكن فى ضربة إزميل الفنان على الحجر.
لا يقلل من شأن “الرحلة” أن يقال بصراحة إنها سيرة ذاتية رائعة وصادقة، إننا نظلمها ونظلم كاتبها كثيرا إذا حاسبناها بمعيار العمل الروائى الفريد والعظيم، لأنها أقرب ما تكون الى مادة الحياة بكل صلابتها، لا أكثر ولا أقل. كان هدف صاحبها نقل التجربة، وتقديم شهادة ودفتر أحوال لكل ما عاش ورأى وسمع، استطرد كيفما شاء، وصنع سرده بلا إحكام، مؤثرا الصدق على ما عداه من فنيات البناء الروائى، وحسنا فعل، لأن فى طزاجة التجربة، و فى تدفق السرد، وفى حرية الحكى ودقته، ما يحقق معنى الشهادة المباشرة، بل ورربما كان فيما تقتضيه صنعة الرواية من توازن وتشذيب وضبط للحوار ما يقلل أو يفسد من سيرة مباشرة، تُنقل كما حدثت، وتمتلك جاذبيتها فى خشونتها، وفى قدرة كاتبها على استدعاء الذكريات دون تدخل، ذلك أنها حفرت أيضا فى عقله وقلبه ، وربما فى جسده، دون إعداد أو ترتيب.
نحن، فى كل الأحوال، فى حاجة الى الحالتين: سير ذاتية تؤثّر بمادة الواقع كما هى بقدر الإمكان، وأعمال روائية تستلهم الواقع، وتؤثر بلمسات الفن فى إعادة بناء مادة الواقع وتشكيلها. نحتاج أن نقرأ كتابا ( لو كان ممكنا) لفتاة فقيرة حقيقية سكنت فى زقاق المدق، مثلما نحتاج أن نقرأ رواية نجيب محفوظ عن نفس الزقاق وشخصياته كما تخيلها فى روايته الشهيرة. هذه نقطة منهجية أساسية استدعتها المقدمة، وقد أدهشنى فعلا أن يزن روائى وصحفى كبير مثل صلاح حافظ قيمة الكتابات على طريقة تصنيفات مرشحى مجلس الشعب ( فئات أم عمالا وفلاحين!) ، لا بما تتضمنه الكتابات نفسها من قيم إنسانية أو فنية .. إلخ
“الرحلة” كما أراها من أبرز كتب السير الذاتية الصادقة التى قرأتها، وفضل فكرى الخولى لا يقتصر على تسجيل وقائع معاناته ومعاناة زملائه فحسب، ولكن فى أنه يقدم وجهة النظر الأخرى لآثار الحركة الصناعية المصرية التى قادها طلعت حرب، إنه يحكى من جديد عن ملح الأرض الذين يدفعون الثمن، ولا يتذكرهم أحد، يحدث ذلك تقريبا فى كل المشروعات، وقد مسّ هذه الزاوية مثلا صنع الله إبراهيم فى روايته “نجمة أغسطس” عن السد العالى، البعض لم يتخيل أصلا أن عمالا قد ماتوا فى بناء السد، ذلك أن الضجيج يخفى التفاصيل الصغيرة فى معظم الأحوال.
ولكن مأساة العمال فى بدايات مصنع الغزل والنسيج فى المحلة الكبرى أكثر إيلاما، الصبى الصغير الذى حلم والده البسيط بأن يكون متعلما، اختار بنفسه أن يهرب من قريته الفقيرة (كفر الحما مركز طنطا) ، ليكون مع اثنين من أصدقائه، االتحقا بالعمل فى مصنع الغزل والنسيج بالمحلة ، اكتشف الصبى ظروف العمل الكارثية فى تلك الأيام، حيث يتواصل الشغل بلا رحمة لمدة تقترب من 13 ساعة متواصلة، ويتعامل المشرفون من العمال بالضرب والصفع، أما الذين تهرسهم الماكينات أو السيور فتؤخذ جثثهم للدفن، بلا تحقيق أو تسجيل. العمال التعساء كانوا يعودون منهكين ليتكدسوا كل عشرين نفر فى حجر واحدة، تفتقد الحد الأدنى من النظافة أو الشروط الصحية، والمفزع فعلا أن هؤلاء العمال / الفلاحين القادمين من القرى، كانوا يتعرضون لمعاملة شبه عنصرية من أهل مدينة المحلة، كان سكان المدينة يعتقدون أن زحف هؤلاء الريفيين للعمل فى المدينة، قد رفع أسعار الشقق والخضراوات والأغدية، بل إن فكرى الخولى يشير الى حقيقة يجهلها الكثيرون، وهى أن بناء مصنع الغزل والنسيج، قضى على صناعة يدوية للأقمشة كانت تتم داخل منازل سكان المحلة، وإن كان المصنع قد جعل من هؤلاء الصنّاع القدامى أسطوات فى المصنع العملاق الجديد.
يحكى الخولى تفاصيل التفاصيل على هذه السخرة الحقيقية فى مقابل قروش قليلة، ويقدم لوحات مؤثرة سواء فى قريته البسيطة، أو فى داخل المصنع حيث يمسحون دماء القتلى، أو فى خارجه حيث يتصارعون على لدخول الوردية بصورة تذكرنا بمفتتح فيلم “العصور الحديثة” لشارلى شابلن، أو فى حجرات العمال البائسة، حيث ينامون من التعب، قبل أن يأكلوا( الطعام لايزيد فى الغالب عن الخبز وبعض الباذنجان والطماطم المخللة )، وحيث تمرح الحشرات بسبب قلة النظافة. لن تنس أبدا ملامح شخصيات كتب عنها الخولى مثل والدته القوية، والحنونة، والصابرة، ومثل رقية الفلاحة الصغيرة التى كانت تعشقه، والتى اختبر معها مشاعر الجسد، ومشاعر العاطفة، ومثل تلك العاهرة البائسة التى حملت مآساتها الى المحلة، ومثل ذلك الأسطى الذى سيعّلم فكرى مهارات الغزل والنسيج بدأب وإصرار، وفى خلفية السيرة، حركة سياسية عارمة، نتيجة كفاح المصريين ضد حكومة صدقى، وتأييد الغلابة لحزب الوفد، والنحاس باشا، ربما لأن الحزب كان ما زال وقتها يمثل أصحاب الجلاليب الزرقاء.
قوة “الرحلة” فى أنها نقلت إلينا جبل المحنة بكل ثقله، وضعته أمامنا لنتأمله بكل خشونته، دون تدخل أو تزويق، نحن بالفعل أمام وثيقة إجتماعية نادرة، الآثار الجانبية للنهضة الصناعية، لمن شاء أن يعيد الكتابة من وجهة نظر الغلابة. هنا منجم لاينضب، ولا غنى عنه لمن اراد أن يضيف ملامح جديدة للتاريخ الإجتماعى للمصريين فى تلك الفترة، كما أن قراءة هذه السيرة ضرورية لمن يتصدى لكتابة دراما أو رواية أو أى عمل فنى عن فلاحى وعمال تلك السنوات. تلك هى القيمة الكبرى لإعادة طبع هذا العمل الهام، وأحسب أن ذلك أمر عظيم، يكفى صاحبه أنه امتلك شجاعة استعادة تلك اللحظات المؤلمة، وأنه كتب عن المسكوت عنه دون وجل أو خوف، ولعلنا ننتظر من الآن فى شوق استكمال الرحلة فى جزئها الثانى، بعد أن أكتشفنا وقائع سنوات الضنك، وبعد أن وجدنا فيها نفساً إنسانيا رفيعا، ينتصر لأولئك الذين لم ( ولن) يظهروا أبداً فى صور الإحتفالات.