الرأس الجديد

رزق البرمبالي
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

رزق البرمبالي

أذكُر عندما كنت في مملكة الجبل الأزرق، الكائنة وراء البحار البعيدة، التقيت بصديقي زنهار ابن علقمة شهبندر التجار، وبينما نحن جلوس نتجاذب أطراف الحديث عن التجارة والفلوس،

قال لي: سأقص عليك حكاية غريبة، ومدهشة لدرجة أن دهشتها تُقَاس بالأمتار، ويتعجب منها العجائز والصغار، ويحتار في تفسيرها العلماء الكبار.

قلت مبتسما: كلي ’ذان صاغية يا زنهار.

قال: بينما كان القاضي حكيم الزمان في طريقه إلى سلطنة “سحر العيون” إذ هبط على مملكتنا طلباً للراحة، فنزل عن راحلته، وربطها في شجرة وارفة الظلال، ثم استقبل القبلة ورفع يديه وكبر، فرصدته العيون، وعلي الفور وصل الخبر للملك قمر المكان ملك مملكة الجبل الأزرق، الذي يحب مضغ المر والكمون وشرب عصير الليمون!

 ففرح واستبشر ونهض من فراشه الوثير ثم أصدر أوامره للوزير شمس الزمان وكذلك رئيس الشرطة مرجان، بضرورة إحضار حكيم الزمان في التو والأوان، انتهى القاضي من صلاته، وتوسد ذراعه الأيمن، ثم تعوذ من كل فاجر وزنديق، وغط في نوم عميق، وَظَهْرُه إلى الشجرة لصيق، أحاط الجُند بالقاضي وتقدم إليه الوزير شمس الزمان وبجانبه وقف رئيس الشرطة مرجان،

 أيقظه الوزير برفق، فانتبه وفرك عيناه، وما إن رأى الجُند حتى نهض فزعاً فاغرا فاه، ووضع على رأسه القلنسوة ثم قال للوزير وهو يشير إلى اَلْجُنْد: ما هذا يا شمس الزمان؟!

ـ عفوا، سيدي القاضي، هذه أوامر الملك قمر المكان.

 نزل اسم الملك على سمع القاضي كبارود محترق، وبدأ جبينه في التعرق، فلم يكن يدري أنه سيأتي اليوم ويلتقي بذلك الظالم فاقد الأخلاق، سارق الأرزاق، نصير الظلم والظالمين… حبيب الجلادين، وفارض الضرائب على الحطابين، واليتامى والفقراء والمحتاجين!

 سار القاضي مرفوع الهامة والقامة، يسبقه عدله الذي كساه هيبة وحضور وأضفى عليه مزيداً من الوقار والنور، حتى وصل إلى قصر الملك قمر المكان فحَياه بِانْحِنَاءَة خفيفة، ففهمها الملك وأسرها في نفسه، واستقبله بترحاب شديد، وقربه من مجلسه، وأمر الجواري والعبيد بالرقص وعزف النشيد، وتقديم كل ما هو جديد، إكراما للضيف القاضي الرشيد.

 كان عقل القاضي يلف ويدور كطبق بنور، ماذا يريد مني ذلك الثعلب الماكر، الذي يُبعد عنه كل زاهد وراشد، وكل ناصح وفالح، ويقرب منه كل لص ونابح!  

 انتهى حفل الاستقبال، ودعاه الملك إلى وليمة كبيرة، فيها ما لذ وطاب من جميع الأطايب والأطياب،  وبينما هما جلوس وحدهم، باغت الملك قمر الزمان.. القاضي بسؤال قائلاً: هل لك أن تخبرني بسر نجاح السلطان ميمون، في أن يحول السَلطنة إلى درة مصون، وكَنز مكنون، وفيها من الرخاء ما يبهج العيون.

 حَدجَهُ القاضي بنظرة ماكرة، ثم قال: السر في الزيتون!  

 ظهر على وجه الملك ألوان الطيف، فانعكس ضوءها على لحيته المُخضبة بالحناء، وقال في غضب: أتسخر مني يا حكيم الزمان؟!  

 نظر القاضي إلى الملك محافظا على هدوئه المعهود وقال ببرود: حاشا لله أيها الملك، وأردف: إنني أقف عند حدود ربي ولا أسخر من مخلوق أبدا.

حرك الملك صولجانه الذهبي، وعَدَل من وضع التاج فوق رأسه وقال رافعا أرنبة أنفه، وهو يعبث بشعر لحيته: وماذا بعد؟!

ـ أطال الله عمر الملك قمر المكان، واستطرد: مولاي السلطان ميمون قام بهدم السجون، وبدلاً منها أمر الحراس بزراعة أشجار الزيتون، فكل من يرى معاصر الزيتون ينشرح صدره ويُسّر خاطره.

ـ وهل الزيتون فقط من رفع من شأن السلطنة وأغناها إلى هذه الدرجة؟!  

ـ بالطبع لا، والسر الذي تبحث عنه يكمن في العدل، قال ذلك وهو ينظر إلى لوحه داخل إطار ذهبي، معلقة في منتصف جدار المجلس فوق رأس الملك مباشرة، مائلة ناحية اليسار قليلاً، كُتبَ داخلها عبارة “العدل أساس المُلك”،  

اهتز كأس العصير في يد الملك وقال غاضباً: لقد تجاوزت حدودك معي، أيها القاضي الماكر.

 نهض القاضي مبتسما، وقال للملك: أنا لكرمك ذاكر وشاكر، ثم اقترب خطوة منه ونزع رأسه وقال: رأسي هديه لك أيها الملك، استعملها لمدة شهر، وستجد بإذن الله كل شيء عسير انقلب معك إلى يسير، وسيأكل شعبك الفطير، ويتوقف عن أكل الشعير.

 بعد أن ذهب عن الملك الروع، وفاق من الفزع، فكر وتَدبر، ثم قال متعجباً: ورأسي ماذا أفعل به؟!  

 في أسى قال القاضي وهو من الحزن يكاد أن يبكي: سأضعه تاجا فوق جسدي، وإنه لشرف وأي شرف لي أيها الملك،

ضحك الملك، فرُجَت ضحكاته أرجاء القصر، وقال: إذاً فلنجرب، وأردف: هاك رأسي، ومن اليوم أنت ضيفي.

 كان الوزير شمس الزمان ومعه رئيس الشرطة مرجان يقفان خلف الباب، يسترقان السمع كاللصوص، وما إن علما باتفاق القاضي حكيم الزمان والملك قمر المكان، حتى تحسس كل منهما رأسه ورقبته، وأيقنا أن رأس القاضي لن يفلح معها ألاعيب الشيطان، وخداع شمس الزمان ولا مكر مرجان.

جلس الملك فوق كرسيه وتحسس رأسه الجديدة باللحية البيضاء اللؤلؤية، ارتمى بجذعه للخلف، ومسك صولجانه من المنتصف، تحسسها بأنامله مبتسما، وسرعان ما عقد حاجبيه وألقاه بعيداً عن يديه وكأنها حيه ستهجم عليه، وقال في حِدّه: تبذير وإسراف، وجال ببصره في أرجاء القصر، وأمر بجمع التحف الذهبية، وكل دمية حتى ولو بماء الذهب مطلية، ثم حوقل واستغفر،

 إن رأس القاضي الذي اشتهر في سائر الأمصار بحكمته وعدله، تتحكم الآن في جوارح الملك قمر المكان، وتضفي على روحه مزيدا من الحب والحنان، الأمر الذي جعله يحكم بالعدل في كل مكان ويتقدم إلى الشعب بالإحسان،  

 ولأول مرة في حياة قمر المكان يشعر بحب الخير، وتتساقط دموعه في حرقه وندم، فتَنزل على لحيته كأنها شلال يسقط من أعالي الجبال، ولأول مرة أيضاً يشعر أن الدنيا إلى زوال، وبأن الموت قادم لا مُحَال.

 قلت لزنهار بن شهبندر التجار: إنها فعلاً حكاية عجيبة، ولكن هذا ماكان من الملك قمر المكان، ماذا عن القاضي حكيم الزمان؟

أطرق رأسه إلى الأرض ثم قال والحزن يملأ صفحة وجهه الأحمر كأبيه الشهبندر:القاضي… القاضي. ثم سكت، ورأيت دمعة فرت من عينيه،

أحسست بقلبي يدق بعنف دقات سريعة، وخشيت أن يكون قد أصاب القاضي مكروه، فسألت: أهو بخير؟!

_نعم، وأردف: لكن تأتيه هلاوس مُريعة،

_كيف؟!

_أمره رأس الملك بقتل السلطان ميمون، لكن جوارحه رفضت بشده وأقسمت على ترويض الرأس الجديد.

 

 

مقالات من نفس القسم