عبد الرحمن أقريش
انحنى (المامون)، التقط القطعة، دسها خفية في جيبه وراح يكمل طريقه، يمشي، يعرج بقدمه اليسرى، يضغط عليها، يلتفت يمينا ويسارا بحثا عن محل لإصلاح الأحذية.
يفكر، يسأل نفسه.
– ما معنى أن تفقد كعب حذائك وأنت في الطريق، ذاهب إلى موعد عاطفي؟!
خطر بباله ذلك السؤال عندما طارت تلك القطعة على بعد خطوة أو خطوتين.
هو يعرف أن للموضوع رمزيته، فالأحذية هي جزء من هذه الأيقونات والأصنام التي تزخر بها الحكايات السحرية والأحلام والخطاطات الغامضة للتحليل النفسي…
ولكنه طرد تلك الخاطرة من ذهنه سريعا، فالمهم الآن هو أن يجد شخصا يصلح حذاءه المعطوب.
ينظر إليه المارة، ترتسم على وجوههم ابتسامات هي مزيج من الشماتة والإشفاق المزيف.
في البداية حاول الحفاظ على توازنه، يمثل اللامبالاة، ولكنه في قرارة نفسه كان يشعر الخجل والكثير من الحرج.
ثم يشعر بالغضب، يغضب من الآخرين، يخاطبهم بداخله.
– فقدت كعب حذائي، وماذا بعد؟ إنه مجرد حدث سخيف وتافه…الآلاف يفقدون أحذيتهم في الشارع كل يوم، بعضهم يفقد أيضا ملابسه أو يرميها في نوبة جنون عابرة فيمشي عاريا كما ولدته أمه، يمشي شاهرا في الناس سوءته من قبل ومن دبر…
ثم يغضب من نفسه أكثر، ينفعل، يخاطب ذاته.
– وأنت، متى تتحرر من هذا الخجل المعجون بالخوف؟
ينحني، ينزع فردة الحذاء المعطوبة، يجرب المشي خطوة، خطوتين، يتوقف، ينحني ثانية، ينزع الفردة اليمنى، يخلع جوربيه، يدسهما في جيب سترته ويمضي حافيا…
…
توقف أخيرا أمام محل صغير لإصلاح الأحذية، محل بدون لوحة أو علامة مميزة، يفكر أنه لا أهمية لذلك، فالرجل الإسكافي كان غارقا في كومة من الأحذية والحقائب الجلدية.
دخل (المامون) إلى المحل الصغير، يشير الرجل إلى كرسي خشبي متهالك.
– تفضل، إجلس.
ينظر إليه (المامون)، يتأمله، يتأمل تفاصيل المكان.
الرجل خمسيني أو يزيد قليلا، بدا وكأنه قادم من زمن آخر، مهندم، حليق وأنيق، أناقة من زمن مضى، شعر أبيض خفيف مثل كومة ثلج، وشارب معقوف مشذب بعناية.
يتفحص الرجل الحذاء، يعالجه، يشتغل بهدوء وأناة، ثم بين الحين والآخر يتوقف، يشعل غليون الكيف، يمتص منه نفسا عميقا، يرشف رشفة خفيفة من كأس الشاي الموضوعة أمامه، ثم يرسل الدخان بمتعة، يرسله بعيدا في أعمدة قوية ومستقيمة، ثم بنفس الهدوء يعود إلى عمله.
ينظر إليه (المامون) بإعجاب، يقدر أنه من هذه العجيبة الخاصة من البشر، هذا النوع من البشر الذي يعيش الحياة يوما بيوم، يستمتع بما لديه، ويكفيه القليل لكي يكون سعيدا…
استسلم (المامون) لهواجسه، تمنى لو يقترح عليه الرجل نفسا من تلك العشبة السحرية.
ينظر إليه الرجل، وبفراسة الرجل الحكيم يقرأ هواجسه.
يخاطبه.
– وددت أن أقترح عليك نفسا من هذا الكيف، ولكنني أفترض أنك من جيل اللفافات المحشوة، وأعرف أن عبق الكيف لا يستهوي الشباب أمثالك.
يجيبه (المامون) بابتسامة صامتة.
يعود الرجل إلى عمله.
يبدو منهمكا، منخرطا، ومستمتعا تماما بما يعمل.
ثم في لحظة ما، راح يحدث (المامون) عن تجربته في الحياة، عن العمل والأحذية والنساء والأناقة…
يتحدث من دون أن ينظر إليه، فيبدو وكأنه يخاطب ذاته بصوت مرتفع.
– شوف يا بني، تبدو لي شابا مهذبا، لبيبا ومثقفا…
يرسم لحظة صمت، وكأنه يختبر استعداد (المامون) للحديث والإنصات.
– قيمة الرجل من قيمة حذاءه، الحذاء يا ولدي يلخص فلسفة الرجل ونظرته لحياته، بسبب الظروف والمشاغل اليومية قد يهمل الرجل ذقنه لأيام أو حتى لأسابيع، قد يتساهل بين الحين والآخر في مظهره، ولكن لا يجوز له أبدا أن يهمل حذاءه، الحذاء الأنيق بصمة الرجل الأنيق!!
يرسم لحظة صمت أخرى، ويكمل.
– وانتبه جيدا، فالنساء يدركن هذا الأمر…
…
يغسل المطر وجه المدينة.
وقف (المامون) ينتظرها أمام محطة القطار.
لم يغير المطر كثيرا من إيقاع المدينة، يمر البعض مسرعا، يحتمي البعض بمدخل المحطة، البعض يمشي بهدوء، أما هو فبقي هناك واقفا في مكان مكشوف.
لا يذكر أنه ذهب متأخرا إلى موعد عاطفي أبدا، وبالمقابل يزعجه كثيرا أن يتأخر الآخرون، يحزن دائما، أحيانا يغضب، يغضب بصمت، أحيانا يغضب بقوة، ولكنه لا يكشف أبدا عن مشاعره السلبية.
عندما رآها قادمة تبخرت هواجسه.
نظرت إليه، ثم إلى باقة الورود في يده، ابتسمت، أخذتها.
لم يكن متأكدا، ولكنه في لحظة ما، تخيل أنها ألقت نظرة خفية إلى حذاءه.
كانت الورود مبللة ولكنها مفعمة وفي منتهى العنفوان.
خاطبها وكأنه يعتذر.
– حاولت جاهدا أن أحميها من البلل!!
قبلته وقالت.
– لا بأس، فالورود تحب البلل!!
فكر، أجابها بصمت.
– فعلا، الورود تحب البلل!!
في القاعة الزجاجية الأنيقة لمقهى (النهضة) خلعت معطفها، وضعته على ظهر الكرسي، وجلست تنظر للمطر، يدخن هو وينظر إليها، يتأملها، يستكشفها، ملابسها المبللة التي تكشف وتخفي تفاصيل جميلة، شعرها الأسود، تسريحتها القصيرة على الموضة، وهذا الوميض الغامض في عينيها الكحليتين.
لسبب ما، تخيل أنها حزينة، انتقلت إليه العدوى، تملكه شعور حزين وغامض.
انحنت، مالت تهمس له.
– أتعرف؟ أنا حزينة، وأفترض أن لديك مكانا نأوي إليه!!